النحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها
صفحة 1 من اصل 1
النحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها
بسم الله الرحمن الرحيم
النحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها
للأستاذ الدكتور عبده الراجحي
[ندوة تطوير تعليم اللغة العربية، بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، في الفترة من 25 - 28 / 8/ 1990]
بسم الله الرحمن الرحيم
مامن مرة يقترب فيها الناس من «تعليم» اللغة إلا ويبرز«النحو» كأنه «الحارس» الذي يمتلك مفتاح الطريق، ومع ما جرى من محاولات حديثة «لتخطي» النحو أو«لإخفائه»، فقد ظل يمثل مسألة المسائل في التعليم اللغوي.
والحق أن القضية ليست خاصة بلغة من اللغات، وإنما هي قضية عالمية، فقد كان تعليم اللغة - في القديم- يستند - في معظمه- إلى تعليم النحو وكانت دراسة اللاتينية، وهي التي أثرت في دراسة اللغات الأوروربية وفي تعليمها - دراسة لنحوها، ومنذ القرن الثامن عشر ظل تعليم اللغات الأجنبية يسير في إطار منهج النحو والترجمة methodology Grammar- translation وظلت مهارة اللغة تعني -في المقام الأول- القدرة على التصريف والإعراب. [انظر في هذا:
Kelly, L. 25 Centuries of language teaching, Nawbury House, Rowley, Rowley, Massachusetts, 1969.
ومن اللافت أن كلمة grammatikos. كانت تعني في اليونانية القديمة دراسة الأدب، كما انصرفت في العصور الوسطى إلى معنى «الكتابة» و«التعلم» على وجه العموم].
ومع ذلك كله فإن النحو في تعليم العربية في العصر الحاضر يمثل حالة خاصة، لأسباب:
* أن العربية نفسها لغة متصلة الحياة، لم يحدث فيها تغير جوهري كالذي نعرفه في غيرها من اللغات، ولا تزال النصوص التي وصلت إلينا من العصر الجاهلي حية في معظمها إلى الآن.
* أن العربية تمتلك تراثا نحويا ممتدا لم تعهده لغة أخرى، فمنذ القرن الثاني الهجري والعلماء يتلاحقون واحد في إثر واحد يؤصلون هذا النحو، ويعمقونه، ويبسطونه. وقد أثبت هذا التراث صلاحيه
بالبرهان الواقي حين استطاع أن يحافظ على منهجه وعلى العربية كل هذه القرون.
ولقد دخلت العربية بلادا كثيرة لم تكن تتكلمها، وبدهي أن ذلك ما كان يمكن أن يحدث إلا وفق جهود معينة، ومن أسف أننا لا نمتلك حتى الآن دراسة علمية حقيقية عن الجهود التي بذلها المسلمون في تعليم العربية وتعليمها طوال هذه القرون.
لقد كان ذلك كله كفيلا أن يجعل من تعليم العربية في العصر الحاضر نموذجا صالحا لتعليم اللغات، لكن النقيض هو الذي حدث، فقد وقع تعليم العربية في مشكلات جوهرية كثيرة.
والنحو في تعلم العربية حقيق بوقفة متأنية؛ لأنه يجسد الخلل العام خير تجسيد، ولأن الناس يعلقون مشكلات العربية عليه. وهو جانب واحد من جوانب القضية، لكنها حالة ما ينبغي لنا أن نتجاهل الحق فيها، فقد تبين لنا أن مقررات النحو في المدارس العربية سبب جوهري لكراهية التلاميذ للعربية بوجه عام، وظهر أن نسبة الرسوب فيه تكاد تكون من أعلى النسب بين مواد التعليم قاطبة.
وهذه الحالة لا يمكن أن تكون ظاهرة كاذبة أو مخادعة، لأنها واقع لا ريب فيه وهي أيضا ليست ظاهرة إقليمية بل هي عامة -بدرجات متفاوتة- في أقطار العالم العربي. من أجل ذلك جرت محاولات غير قليلة «لإصلاح» النحو أو«تيسيره»، لكنها جميعها أخطأت البداية فلم تصل إلى غاية، وذلك أنها ظنت أن تيسير النحو ييسر تعليمه، وهذا غير صحيح، فثمة فرق جوهري بين النحو وتعليم النحو؛ الأول هو «علم» النحو، وهو علم يقدم وصفا لأبنية اللغة، وهو حين يفعل ذلك إنما يلجأ إلى «عزل» الأبنية من سياق الاستعمال، ويضعها في إطار «التعميم» و«التجريد»، أما تعليم النحو فشئ آخر له علم آخر هو: النحو التعليمي pedagogicaI grammar [انظر:
- Rutherford, W., Aspects of pedagogical grammar, Applied Linguistics l, 1980, 60 – 75.
- James, A. P. Hestney, New linguistic impulses in forgein ]language teaching,1981.
وهو يأخذ من الوصف الذي توصل إليه علم النحو لكنه لا يأخذه «كما هو»، بل يطوعه لأغراض التعليم، ويخضعه لمعايير أخرى تستعين بعلم اللغة النفسى في السلوك اللغوي عند الفرد، وبعلم اللغة الاجتماعي في الاتصال اللغوي، وبعلوم التربية في نظريات التعلم وإجراءات التعليم، وكل ذلك كان غائبا عن محاولات الإصلاح والتيسير، ومن ثم لم تؤد هذه المحاولات إلى تغيير في المستوى العام لتعليم العربية، اللهم إلا إثارة بعض البلبة فى استخدام المصطلح، وليس هو المشكلة على أية حال.
ومع ذلك أود أن أؤكد أن النحو العربي ليس مصدر المشكلة في تعليم العربية كما يدعي كثيرون، فكل اللغات المتقدمة لها أنحاؤها العلمية التي تقدم وصفا علميا للغاتها، ولكن هذه الأنحاء ليست هى نفسها التى تُتخذ مقررات لتعليم اللغة فى المدارس، ولكنها مصدر أولي يخضع بعد ذلك لما أشرنا إليه منذ قليل.
على أن النحو العربي قد يمتاز عن الأنحاء الأوربية بأشياء؛ أولها أن الأنحاء الأوربية قد بنيت فى صورتها التقليدية على النحو اللاتيني، وليس الأمر كذلك في النحو العربي الذي صدر عن العربية، وثانيها أن علماء اللغة البنائيين Structuralists ينقدون النحو العربي بأنه نحو «معياري» «تعليمي»، ونحن لا نكرر جانب المعيارية في النحو العربي إلى جانب وصفيته [انظر كتابنا: النحو العربي والدرس الحديث، دار النهضة العربية، بيروت،1979،45 - 107] ومن ثم فالفرصة هنا أكثر مواتاة في استثمارها في اختيار نحو تعليمي، وهو مالم نفعله حتى الأن.
وقد فحصنا مقررات النحو في المدارس المتوسطة في عدد من البلاد العربية وخرجنا منها بما يلي:
1- أن الذين نهضوا على اختيار محتوى هذه المقررات ذهبوا إلى كتب النحو، ووضعوا أيديهم فيها، وأخذوا منها ما أرادوا دون تغيير، والأغلب أنهم رجعوا إلى بعض كتب المتأخرين التي تمتلئ بالحواشي والهوامش والتقارير، أو رجعوا إلى بعض«الملخصات» النحوية مما أفضى إلى بعض الأخطاء. والمهم هنا أن البداية خاطئة لأن المادة النحوية كما هي فى كتب النحو ليست مادة تعليمية ومن ثم فإن كل ما يترتب على هذه البداية الخاطئة لا غرابة فيه.
2- لم يراع في اختيار الموضوعات تناسبها مع القدرات المعرفية للتلاميذ، لسبب بديهي ومفهوم، وذلك لعدم وجود بحوث حقيقية عن هذا الجانب في العالم العربي، ولا يحاول المؤلفون أن يصلوا إلى شيء منه ولو بالخبرة الشخصية.
3- لم تحظ العربية حتى الآن ببحوث عن «قوائم الكلمات» وليس فيها بطبيعة الحال بحوث عن قوائم الأبنية النحوية والصرفية مما ييسر نسبة الشيوع فيها، لكن ذلك ليس مبررا لمؤلفي المقررات النحوية، فالذي لاشك فيه أن الخبرة يمكن أن تعين على التمييز إلى حد ما بين ماهو شائع وما هو غير شائع، من أجل ذلك جاءت هذه المقررات حافلة بمواد ليست لها نسبة شيوع تبرر اختيارها في هذه المرحلة.
4- جاء تقديم القواعد النحوية -كما هو متوقع- من جمل معزولة عن سياقاتها الاستعمالية، تسبقها نصوص تمهيدية ليست نصوصا واقعية، وإنما هي نصوص «مصنوعة» بهدف تقديم أمثلة على موضوع الدرس. وهذا المنهج يجعل من العربية جملا «محنطة» لا صلة لها بالحياة.
5- جاءت التدريبات كلها آلية، وهذا طابع عام في كتب االنحو في المدارس بحيث يستطيع التلميذ بعد فترة أن يجيب عن الأسئلة التدريبية، لكنه لا يستطيع أن ينطق أو يكتب جملة صحيحة إذا أراد أن يعبر عن نفسه تعبيرا طبيعيا في مواقف مختلفة.
6- جاء تنظيم المقررات -كما هو متوقع أيضا- على التدريج الطولي، دون مراعاة للمعايير العلمية.
والنتيجة المتوقعة لذلك كله نتيجة طبيعية؛ عدم استجابة الطلاب لهذه المقررات، ثم كراهيتهم للنحو -ثم تطلعهم إلى التخلص من دروس العربية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا [من كتابنا: علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض 1411هـ.] .
هذا هو أمر تعليم النحو في المدارس العربية وليست الحال بأفضل من ذلك في تعليم العربية لغير الناطقين بها؛ فقد انتقل إليه هذا الخلل، أو غياب المنهج، رغم الجهود التي بذلت مؤخرا في هذا المجال.
وأظن أن القضية تقتضي تغييرا جوهريا في التفكير يفضي إلى أنماط جديدة من المعالجة، وأحسب أنه قد يكون ضروريا أن ننظر في تعليم النحو لغير الناطقين بالعربية في إطار عدد من المبادئ العلمية التي توصل إليها الباحثون الغربيون في تعليم اللغات الأجنبية، ومن أسف أننا مضطرون إلى ذلك لأننا لم ندخل بعد بداية البحث الجدي في هذا الشأن، وليس لنا فيه إسهام حقيقي حتى الآن، وسوف أقتصر هنا -لدواعي الوقت- على المبادئ التالية:
أولا: النحو ومبادئ التعلم:
درج تقديم النحو في العربية -وفي معظم اللغات- على قواعد «التعليم» teaching وليس على مبادئ التعلم.learning ومن ثم كان المنهج ينهض على تقديم الجزئيات النحوية واحدة بعد الأخرى حتى يؤدي تراكمها التدريجي إلى تكوين الكفاءة النحوية - وقد أدت هذه الطريقة إلى القصور الذي نعانيه في الوقت الحاضر.
والآن، كيف نربط النحو بالتعليم؟
يكاد الإجماع ينعقد على أن تعلم أي شيء لا يحدث في «فراغ»، أي إن التعلم لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان مرتبطا بشيء معروف لدى المتعلم، ومن ثم فلابد أن يجري التعلم في سياق مألوف. وهذا القانون الأساسي من قوانين التعليم هو الذي ينتج القاعدة المعروفة عن ضرورة الانطلاق من المألوف إلى غير المألوف.
وبديهي أن الشيء الذي «يعرفه» المتعلم إنما يعرفه من «اكتسابه» للغته الأولى، وبديهي أيضا أن نظريات النحو ليست نظريات في الاكتسابacquisiton وعلى ذلك فإن علينا أن نستثمر وسيلة مهمة من الوسائل التي تحقق مبادئ التعلم، وتلك الوسيلة هي التي تعرف«برفع الوعي النحوى»
Grammatical consciousness - Raising.
ولعلنا ندرك «ضرورة» هذه الوسيلة في تعلم اللغات الأجنية حين نقارنها باكتساب اللغة الأولى، ذلك أن القدر الهائل الذي «يتعرض» له الإنسان في لغته الأولى يمكنه من إجراء «التصنيفات» الداخلية، والوصول إلى «التعميمات» الملائمة، وهذا القدر لا يمكن أن يتوافر في تعلم اللغة الأجنبية، خاصة إذا كانت حجرة الدراسة هي المصدر الوحيد للغة، وعلى ذلك لابد من وسيلة تمكن المتعلم من تحقيق هذه الإجراءات الداخلية في اختبار «فرضياته» وصياغة «تعميماته» و«الوعي النحوى» هو الذى يحقق ذلك، وهنا يكون السؤال: كيف نرفع الوعي النحوي؟
ليس من شك في أن «اختيار» المادة اللغوية يمثل العنصر الأساسي، وليس ذلك أمرا هينا، لأن القدر المطلوب ضئيل جدا إذا قيس بالفيض اللغوي في اللغة الأولى، ولابد إذن من وسيلة تجعل من المادة اللغوية المختارة وسيلة لرفع الوعي النحوي.
والوسيلة التي يتفق عليها المختصون هي استثمار «الكليات اللغوية» Universals وهي الظواهر المشتركة في اللغات الإنسانية، فإذا تمكنا من اختيار المادة صدورا عن هذه الكليات أمكننا أن نضعها في سياق مألوف لدى المتعلم، وحققنا له الانتقال من المألوف إلى غير المألوف - وهذا يرفع عنده الوعي النحوي. والكليات اللغوية لها جانبان؛ أولهما ما يعرف بالمبادئ الكلية Universal principals وهو الذي يختص بالظواهر اللغوية المشتركة، كالترتيب الأساسي للكلمات في الجمل، إذ لابد في كل لغة من ترتيب بين الفعل والفاعل والمفعول [تجرى معظم اللغات على أحد الأنماط الآتية :
- فعل +فاعل + مفعول
- فاعل + فعل + مفعول
- مفعول + فاعل + فعل
وبعضها يتميز بترتيب حر]، وكالعلاقة بين الصفة والموصوف، ووجود الفصائل النحوية...، وغير ذلك مما تجرى عليه دراسات كثيرة في الوقت الحاضر. والجانب الثاني هو الذي يطلق عليه «العمليات الكلية» Universal processes وهي العمليات اللغوية التي فطر عليها الإنسان، والتي تتجسد عند اكتساب لغته الأولى، ولعل أهمها مما له اتصال بموضوعنا أن الطالب الذي اكتسب لغته الأولى يعرف -بطريقة ما- «كيف» تؤدي لغته وظائف «اتصالية» وفي أي شيء يستعمل هذا التركيب أو ذاك، وهذا يساعده في معرفة «الوسائل النحوية» التي تتحقق بها هذه الوظائف في اللغة الأجنبية التي يتعلمها.
يقول Stevick « إن رفع الوعي يلقى الضوء على الطرق غير المألوفة، والعقبات الحتمية، التي لابد أن يسلكها المتعلم جيئة وذهابا وعيناه مغلقتان وهو لذلك يوفر كثيرا من الجهد والوقت. ومن الضروري أن يكون المدرس مدربا على أن يعرف هذه الطرق والعقبات وأن يعرف متى يستثمر رفع الوعي في صالح المتعلم».
[Stevick, E, Teaching languages: a way and ways,
Newbury House, Rowley, Massachusetts, 1980, p. 25l.]
ولكي نصل إلى ذلك في تعليم اللغة العربية لابد من بحوث جادة عن الكليات اللغوية خاصة عن طريق التقابل اللغوي، وبدراسة اللغة التي ينتجها الطلاب، ولابد من بحوث عن كيفية التكامل بين التعلم Instruction والتعرض اللغوي exposure الذي يحقق التعلم.
ثانيا: الربط بين البنية والمعنى:
ومبدأ التعلم يفضي بالضرورة إلى هذا المبدإ، ومن المعروف أن أصحاب البنائية قد ركزوا عملهم على «الأشكال» اللغوية منفصلة عن دلالاتها وجرى تعليم النحو في الأغلب الأعم على ذلك، وفي ذلك مجافاة لطبيعة اللغة من ناحية ولقوانين «التعلم» من ناحية أخرى. ذلك أن كل إنسان يرسخ لديه
-بعد اكتسابه للغته الأولى- أن ثمة علاقة وثيقة بين الشكل والمعنى، وأن طبيعة اللغة تؤكد أنه لا وجود لبنية ما مستقلة عن المعاني التي تحملها، وإذا كانت اللغة نظاما من أنظمة System of systms فإن اللغة كلها غير مستقلة بنائيا Structure dependan ومعنى ذلك أن التصورات الدلالية ليست تصورات تجريدية، ولا تسبح في فراغ، وإنما هي تتحقق بتراكيب نحوية
معينة، ويترتب على ذلك أن المتعلم عليه أن يتعلم «شبكة» من البنى النحوية تحقق «التصورات»
الدلالية التي ينتجها أو يستقبلها، وقد ثبت من بعض البحوث أن المسافة بين النحو والدلالة قد تتسع وقد تضيق لكنهاموجودة، وأن هذه المسافة تؤثر -من حيث التعلم- على مبدإ «السهولة» و«الصعوبة».
وأحسب أن هذا المبدأ يقتضينا في تعليم العربية ما يأتي:
1- دراسة العلاقات الداخلية بين البنى النحوية والدلالة في العربية، ثم تحديد العلاقات النحوية الدلالية الأساسية في العربية.
2- إذا كان المتعلم -كما ثبت- يميل - بتأثير من لغته الأولى- إلى أن تكون العلاقة بين النحو والمعنى علاقة مباشرة فإنه من الضروري أن نسعى إلى أن يكون ذلك هدفا من أهداف تعليم النحو.
3- إن المادة اللغوية التي تقدَّم ينبغي أن تخضع للتصنيف المتكامل الذي يهدف أساسا إلى معرفة الخصائص النحوية والدلالية لكل بنية، سواء أكانت على مستوى الكلمة، أم على مستوى التراكيب، فكل «فعل» يقدَّم، يجب أن يعرف المتعلم منه خصائصه المختلفة، من بنية صرفية وارتباطها بالدلالة، ومن علاقات نحوية، كالعمل، والتعدي المباشر وغير المباشر، وصلة ذلك بالمعنى. ومن ثم يكون ضروريا أن تكون المعاجم اللغوية التي تصنع لمتعلمي العربية مشتملة على ذلك.
ولهذا أشرنا آنفا إلى أن النحو العربي التراثي قد واجه نقدا عنيفا لدى البنائيين من أنه نحو يصدر عن المعنى، وتلك -في الحق- سمة جوهرية من سمات الدرس النحوي عند العرب منذ سيبويه، وعلينا أن نستثمر هذا الجانب الغني في النحو في التعليم.
ثالثا: النحو والخطاب:
والربط بين النحو والمعنى يقودنا إلى المبدإ الثالث، وهو ربط النحو بالخطاب discourse والذي لاشك فيه أن الخطاب هو الأساس في النشاط اللغوي، فنحن لا نتواصل «بكلمة» واحدة ولا «بجملة» واحدة وإنما نتواصل في الأغلب الأعم «بسلسلة» من الجمل أو«بكتل» كلامية.
والحق أن النحو، والدلالة، والخطاب تتشابك في علاقات داخلية لا تنفصم إحداها عن الأخرى:
أ - فالخطاب يحدد «نظاما» عاما لهيئة الكتل الكلامية أو لسلاسل الجمل.
ب - والدلالة تحدد الهيئة النحوية لمكونات الجملة.
جـ - والنحو هو الذي يحقق ذلك كله ويقدم للغة صفتها البشرية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن تعليم النحو ينبغي أن يكون له مسار آخر، إذ يجب ألا يقتصر على درس
درس الجمل المعزولة، والأمثلة المصنعة؛ لأنها لا تكوّن خطابا ، ولا تفي بمقتضياته، ومعنى ذلك أن النحو يجب أن يتسع فيشمل -إلى جانب قوانين نظام الجملة- قوانين نظام الجمل المترابطة، أو الكتل الكلامية أوالفقرة المكتوبة إن شئت.
ومن الملاحظ أن العربي يصل إلى قوانين النظام النحوي للخطاب عن طريق الاكتساب «بالتعرض» اللغوي المستمر، وهو لا يستطيع أن يعبر عن هذه القوانين بلغة علمية في أغلب الأحيان، والأمر مختلف عند غير الناطق بالعربية.
فالقوانين النحوية للخطاب غائبة في مقررات التعليم، ومن ثم نجد الخطاب عنده مكونا من جمل معطوقة، أو مربوطة ربطا غير صحيح، نتيجة «لتدخل» قوانين الربط في اللغة الأم، وعلى ذلك فإن مكونات النحو يجب أن تحتوي على قوانين الخطاب، وأهمها الرابط بين الجمل Cohesion ، ومن الملاحظ -مثلا- أن المقررات لا تشتمل على قوانين واضحة لعلامات الترقيم؛ من النقطة، والفاصلة، والفاصلة المنقوطة، وغيرها، وكلها قوانين تعبر عن النظام النحوي للخطاب، كل ذلك رغم ماقدمه علماء السلف في رسم المصحف من رموز عن الوصل والوقف لم نستثمرها في التعليم النحوي، لا فى العربية لأبنائها ولا لغير الناطقين بها.
رابعا: النحو، في منهج اتصالى:
والمبادئ الثلاثة كلها مقدمات تؤدي إلى المبدإ الرابع، وهو الأساس الذي لا يختلف عليه أحد من المختصين في تعليم اللغات، وهو أن كل شيء في التعليم اللغوي يجب أن يقدم في إطار منهج اتصالى Communicative Curriculum. ويبدو أنه الطريق الوحيد لجعل التعليم النحوي تعليما صحيحا. وليس الأمر يسيرا على أية حال، إذ يقتضي جهودا بحثية متكاملة ومتضافرة، وأمامنا للوصول إلى المنهج الاتصالى في تعليم النحو واجبات كثيرة لعلنا نوجز أهمها فيما يلى:
1- التخلص من تقديم النحو عن طريق الجمل المصطنعة أو المعزولة عن سياقها، والتخلص من صَيْغ النحو
بصيغة الجداول التصريفية والقاعدية الجامدة.
2- تقديم الظواهر النحوية من خلال نصوص لغوية موثقة، وهذه مسألة في الأهمية لأنها تربط النحو «بثقافة» العربية، واختيار النصوص الموثقة لايمكن أن يكون عشوائيا، وهو على أية حال له معاييره وأدواته العلمية. وبالإضافة إلى النصوص اللغوية الموثقة تقدم الظواهر النحوية من خلال الاستعمال في الخطاب اللغوي العام.
3- يترتب على ذلك أن تكون المادة اللغوية التي تقدم الظواهر النحوية مادة متاحة للطالب، يستطيع أن يجدها في يسر، سواء في المكتوب الشائع أو في المسموع المستعمل.
4- أن نتوقف عن تقديم الظواهر النحوية على أساس التدريج الطولي - gradation linear وعلينا أن نغيره إلى التدريج الدوري cyclic لأن الأول يركز على ظاهرة واحدة حتى يأتي
على كل جزئياتها، فيسقط المتعلم في الإحباط، ويفقد دافعية التعلم، إذ لا يجد بعد فترة طويلة إلا عددا
قليلا جدا من قوانين اللغة لا يجد مجالا لاستعمالها- أما التدريج الدوري فيقدم جزءا قليلا من ظاهرة إلى جانب جزء من ظواهر أخرى في الوقت الواحد، ثم « يدور» ليقدم جزءا آخر، وهكذا، فيجد المتعلم فى يده أدوات يستطيع استعمالها في الإنتاج والاستقبال بما يقوي دافعيته على التعلم.
5- إذا كانت حجرة الدراسة هي المصدر الوحيد للعربية فإن علينا أن نسعى أن نجعلها قريبة من «السياق الاجتماعي» بأن نتوقف عن الممارسة اللغوية الشكلية والآلية، وبأن يكون المبدأ هو كفاءة «التعلم» Competence of learning وليس كفاءة التعليم Competence of teaching وذلك بأن ندفع المتعلم إلى «التعلم» من الممارسة اللغوية «إنتاجا» و«استقبالا»، وأن يدخل المتعلمون في«تفاعل» لغوي ينشئ هذا السياق الاجتماعي الذي أشرنا إليه، وقد أثبتت البحوث أن إفادة الطلاب من بعضهم في الظواهر النحوية تفوق إفادتهم من المدرس إذا كان هو المصدر الوحيد للتعليم.
6- وحيث إنه يستحيل تقديم «كل» الظواهر النحوية في تعليم العربية لغير الناطقين بها فإنه من الضروري أن نقدم الظواهر الأساسية، مع الاستعانة بما أشرنا إليه آنفا من الكليات اللغوية؛ لأن ذلك سوف يمكنه من اختبار فرضياته، والوصول إلى التعميمات النحوية، وكل ذلك يؤدي إلى رفع «الوعي النحوي» عند المتعلم مما يمكنه من معرفة الظواهر النحوية الأخرى التى لا يمكن أن تحتويها المقررات الدراسية ويمكنه من اختبار فرضياته، والوصول إلى التعميمات النحوية، ويمكنه من استعمال اللغة استعمالا يقرب من «الاكتساب».
وبهذا فقد يبدو هذا التقديم «نظريا»؛ لكنه فى الحق ثمرة لكثير من البحوث الحقلية التى أجراها المختصون في تعليم اللغات الأجنبية، ومن الملاحظات الفردية المبعثرة التي نخرج بها نحن الباحثين العرب من مما رستنا في تعليم العربية، على أن هذا التقديم «النظري» مقصود لذاته، إذ يستحيل التقدم في عمل علمي حقيقي دون وجود إطار نظري يحكمه ويحدد مساره.
والله من وراء القصد
النحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها
للأستاذ الدكتور عبده الراجحي
[ندوة تطوير تعليم اللغة العربية، بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، في الفترة من 25 - 28 / 8/ 1990]
بسم الله الرحمن الرحيم
مامن مرة يقترب فيها الناس من «تعليم» اللغة إلا ويبرز«النحو» كأنه «الحارس» الذي يمتلك مفتاح الطريق، ومع ما جرى من محاولات حديثة «لتخطي» النحو أو«لإخفائه»، فقد ظل يمثل مسألة المسائل في التعليم اللغوي.
والحق أن القضية ليست خاصة بلغة من اللغات، وإنما هي قضية عالمية، فقد كان تعليم اللغة - في القديم- يستند - في معظمه- إلى تعليم النحو وكانت دراسة اللاتينية، وهي التي أثرت في دراسة اللغات الأوروربية وفي تعليمها - دراسة لنحوها، ومنذ القرن الثامن عشر ظل تعليم اللغات الأجنبية يسير في إطار منهج النحو والترجمة methodology Grammar- translation وظلت مهارة اللغة تعني -في المقام الأول- القدرة على التصريف والإعراب. [انظر في هذا:
Kelly, L. 25 Centuries of language teaching, Nawbury House, Rowley, Rowley, Massachusetts, 1969.
ومن اللافت أن كلمة grammatikos. كانت تعني في اليونانية القديمة دراسة الأدب، كما انصرفت في العصور الوسطى إلى معنى «الكتابة» و«التعلم» على وجه العموم].
ومع ذلك كله فإن النحو في تعليم العربية في العصر الحاضر يمثل حالة خاصة، لأسباب:
* أن العربية نفسها لغة متصلة الحياة، لم يحدث فيها تغير جوهري كالذي نعرفه في غيرها من اللغات، ولا تزال النصوص التي وصلت إلينا من العصر الجاهلي حية في معظمها إلى الآن.
* أن العربية تمتلك تراثا نحويا ممتدا لم تعهده لغة أخرى، فمنذ القرن الثاني الهجري والعلماء يتلاحقون واحد في إثر واحد يؤصلون هذا النحو، ويعمقونه، ويبسطونه. وقد أثبت هذا التراث صلاحيه
بالبرهان الواقي حين استطاع أن يحافظ على منهجه وعلى العربية كل هذه القرون.
ولقد دخلت العربية بلادا كثيرة لم تكن تتكلمها، وبدهي أن ذلك ما كان يمكن أن يحدث إلا وفق جهود معينة، ومن أسف أننا لا نمتلك حتى الآن دراسة علمية حقيقية عن الجهود التي بذلها المسلمون في تعليم العربية وتعليمها طوال هذه القرون.
لقد كان ذلك كله كفيلا أن يجعل من تعليم العربية في العصر الحاضر نموذجا صالحا لتعليم اللغات، لكن النقيض هو الذي حدث، فقد وقع تعليم العربية في مشكلات جوهرية كثيرة.
والنحو في تعلم العربية حقيق بوقفة متأنية؛ لأنه يجسد الخلل العام خير تجسيد، ولأن الناس يعلقون مشكلات العربية عليه. وهو جانب واحد من جوانب القضية، لكنها حالة ما ينبغي لنا أن نتجاهل الحق فيها، فقد تبين لنا أن مقررات النحو في المدارس العربية سبب جوهري لكراهية التلاميذ للعربية بوجه عام، وظهر أن نسبة الرسوب فيه تكاد تكون من أعلى النسب بين مواد التعليم قاطبة.
وهذه الحالة لا يمكن أن تكون ظاهرة كاذبة أو مخادعة، لأنها واقع لا ريب فيه وهي أيضا ليست ظاهرة إقليمية بل هي عامة -بدرجات متفاوتة- في أقطار العالم العربي. من أجل ذلك جرت محاولات غير قليلة «لإصلاح» النحو أو«تيسيره»، لكنها جميعها أخطأت البداية فلم تصل إلى غاية، وذلك أنها ظنت أن تيسير النحو ييسر تعليمه، وهذا غير صحيح، فثمة فرق جوهري بين النحو وتعليم النحو؛ الأول هو «علم» النحو، وهو علم يقدم وصفا لأبنية اللغة، وهو حين يفعل ذلك إنما يلجأ إلى «عزل» الأبنية من سياق الاستعمال، ويضعها في إطار «التعميم» و«التجريد»، أما تعليم النحو فشئ آخر له علم آخر هو: النحو التعليمي pedagogicaI grammar [انظر:
- Rutherford, W., Aspects of pedagogical grammar, Applied Linguistics l, 1980, 60 – 75.
- James, A. P. Hestney, New linguistic impulses in forgein ]language teaching,1981.
وهو يأخذ من الوصف الذي توصل إليه علم النحو لكنه لا يأخذه «كما هو»، بل يطوعه لأغراض التعليم، ويخضعه لمعايير أخرى تستعين بعلم اللغة النفسى في السلوك اللغوي عند الفرد، وبعلم اللغة الاجتماعي في الاتصال اللغوي، وبعلوم التربية في نظريات التعلم وإجراءات التعليم، وكل ذلك كان غائبا عن محاولات الإصلاح والتيسير، ومن ثم لم تؤد هذه المحاولات إلى تغيير في المستوى العام لتعليم العربية، اللهم إلا إثارة بعض البلبة فى استخدام المصطلح، وليس هو المشكلة على أية حال.
ومع ذلك أود أن أؤكد أن النحو العربي ليس مصدر المشكلة في تعليم العربية كما يدعي كثيرون، فكل اللغات المتقدمة لها أنحاؤها العلمية التي تقدم وصفا علميا للغاتها، ولكن هذه الأنحاء ليست هى نفسها التى تُتخذ مقررات لتعليم اللغة فى المدارس، ولكنها مصدر أولي يخضع بعد ذلك لما أشرنا إليه منذ قليل.
على أن النحو العربي قد يمتاز عن الأنحاء الأوربية بأشياء؛ أولها أن الأنحاء الأوربية قد بنيت فى صورتها التقليدية على النحو اللاتيني، وليس الأمر كذلك في النحو العربي الذي صدر عن العربية، وثانيها أن علماء اللغة البنائيين Structuralists ينقدون النحو العربي بأنه نحو «معياري» «تعليمي»، ونحن لا نكرر جانب المعيارية في النحو العربي إلى جانب وصفيته [انظر كتابنا: النحو العربي والدرس الحديث، دار النهضة العربية، بيروت،1979،45 - 107] ومن ثم فالفرصة هنا أكثر مواتاة في استثمارها في اختيار نحو تعليمي، وهو مالم نفعله حتى الأن.
وقد فحصنا مقررات النحو في المدارس المتوسطة في عدد من البلاد العربية وخرجنا منها بما يلي:
1- أن الذين نهضوا على اختيار محتوى هذه المقررات ذهبوا إلى كتب النحو، ووضعوا أيديهم فيها، وأخذوا منها ما أرادوا دون تغيير، والأغلب أنهم رجعوا إلى بعض كتب المتأخرين التي تمتلئ بالحواشي والهوامش والتقارير، أو رجعوا إلى بعض«الملخصات» النحوية مما أفضى إلى بعض الأخطاء. والمهم هنا أن البداية خاطئة لأن المادة النحوية كما هي فى كتب النحو ليست مادة تعليمية ومن ثم فإن كل ما يترتب على هذه البداية الخاطئة لا غرابة فيه.
2- لم يراع في اختيار الموضوعات تناسبها مع القدرات المعرفية للتلاميذ، لسبب بديهي ومفهوم، وذلك لعدم وجود بحوث حقيقية عن هذا الجانب في العالم العربي، ولا يحاول المؤلفون أن يصلوا إلى شيء منه ولو بالخبرة الشخصية.
3- لم تحظ العربية حتى الآن ببحوث عن «قوائم الكلمات» وليس فيها بطبيعة الحال بحوث عن قوائم الأبنية النحوية والصرفية مما ييسر نسبة الشيوع فيها، لكن ذلك ليس مبررا لمؤلفي المقررات النحوية، فالذي لاشك فيه أن الخبرة يمكن أن تعين على التمييز إلى حد ما بين ماهو شائع وما هو غير شائع، من أجل ذلك جاءت هذه المقررات حافلة بمواد ليست لها نسبة شيوع تبرر اختيارها في هذه المرحلة.
4- جاء تقديم القواعد النحوية -كما هو متوقع- من جمل معزولة عن سياقاتها الاستعمالية، تسبقها نصوص تمهيدية ليست نصوصا واقعية، وإنما هي نصوص «مصنوعة» بهدف تقديم أمثلة على موضوع الدرس. وهذا المنهج يجعل من العربية جملا «محنطة» لا صلة لها بالحياة.
5- جاءت التدريبات كلها آلية، وهذا طابع عام في كتب االنحو في المدارس بحيث يستطيع التلميذ بعد فترة أن يجيب عن الأسئلة التدريبية، لكنه لا يستطيع أن ينطق أو يكتب جملة صحيحة إذا أراد أن يعبر عن نفسه تعبيرا طبيعيا في مواقف مختلفة.
6- جاء تنظيم المقررات -كما هو متوقع أيضا- على التدريج الطولي، دون مراعاة للمعايير العلمية.
والنتيجة المتوقعة لذلك كله نتيجة طبيعية؛ عدم استجابة الطلاب لهذه المقررات، ثم كراهيتهم للنحو -ثم تطلعهم إلى التخلص من دروس العربية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا [من كتابنا: علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض 1411هـ.] .
هذا هو أمر تعليم النحو في المدارس العربية وليست الحال بأفضل من ذلك في تعليم العربية لغير الناطقين بها؛ فقد انتقل إليه هذا الخلل، أو غياب المنهج، رغم الجهود التي بذلت مؤخرا في هذا المجال.
وأظن أن القضية تقتضي تغييرا جوهريا في التفكير يفضي إلى أنماط جديدة من المعالجة، وأحسب أنه قد يكون ضروريا أن ننظر في تعليم النحو لغير الناطقين بالعربية في إطار عدد من المبادئ العلمية التي توصل إليها الباحثون الغربيون في تعليم اللغات الأجنبية، ومن أسف أننا مضطرون إلى ذلك لأننا لم ندخل بعد بداية البحث الجدي في هذا الشأن، وليس لنا فيه إسهام حقيقي حتى الآن، وسوف أقتصر هنا -لدواعي الوقت- على المبادئ التالية:
أولا: النحو ومبادئ التعلم:
درج تقديم النحو في العربية -وفي معظم اللغات- على قواعد «التعليم» teaching وليس على مبادئ التعلم.learning ومن ثم كان المنهج ينهض على تقديم الجزئيات النحوية واحدة بعد الأخرى حتى يؤدي تراكمها التدريجي إلى تكوين الكفاءة النحوية - وقد أدت هذه الطريقة إلى القصور الذي نعانيه في الوقت الحاضر.
والآن، كيف نربط النحو بالتعليم؟
يكاد الإجماع ينعقد على أن تعلم أي شيء لا يحدث في «فراغ»، أي إن التعلم لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان مرتبطا بشيء معروف لدى المتعلم، ومن ثم فلابد أن يجري التعلم في سياق مألوف. وهذا القانون الأساسي من قوانين التعليم هو الذي ينتج القاعدة المعروفة عن ضرورة الانطلاق من المألوف إلى غير المألوف.
وبديهي أن الشيء الذي «يعرفه» المتعلم إنما يعرفه من «اكتسابه» للغته الأولى، وبديهي أيضا أن نظريات النحو ليست نظريات في الاكتسابacquisiton وعلى ذلك فإن علينا أن نستثمر وسيلة مهمة من الوسائل التي تحقق مبادئ التعلم، وتلك الوسيلة هي التي تعرف«برفع الوعي النحوى»
Grammatical consciousness - Raising.
ولعلنا ندرك «ضرورة» هذه الوسيلة في تعلم اللغات الأجنية حين نقارنها باكتساب اللغة الأولى، ذلك أن القدر الهائل الذي «يتعرض» له الإنسان في لغته الأولى يمكنه من إجراء «التصنيفات» الداخلية، والوصول إلى «التعميمات» الملائمة، وهذا القدر لا يمكن أن يتوافر في تعلم اللغة الأجنبية، خاصة إذا كانت حجرة الدراسة هي المصدر الوحيد للغة، وعلى ذلك لابد من وسيلة تمكن المتعلم من تحقيق هذه الإجراءات الداخلية في اختبار «فرضياته» وصياغة «تعميماته» و«الوعي النحوى» هو الذى يحقق ذلك، وهنا يكون السؤال: كيف نرفع الوعي النحوي؟
ليس من شك في أن «اختيار» المادة اللغوية يمثل العنصر الأساسي، وليس ذلك أمرا هينا، لأن القدر المطلوب ضئيل جدا إذا قيس بالفيض اللغوي في اللغة الأولى، ولابد إذن من وسيلة تجعل من المادة اللغوية المختارة وسيلة لرفع الوعي النحوي.
والوسيلة التي يتفق عليها المختصون هي استثمار «الكليات اللغوية» Universals وهي الظواهر المشتركة في اللغات الإنسانية، فإذا تمكنا من اختيار المادة صدورا عن هذه الكليات أمكننا أن نضعها في سياق مألوف لدى المتعلم، وحققنا له الانتقال من المألوف إلى غير المألوف - وهذا يرفع عنده الوعي النحوي. والكليات اللغوية لها جانبان؛ أولهما ما يعرف بالمبادئ الكلية Universal principals وهو الذي يختص بالظواهر اللغوية المشتركة، كالترتيب الأساسي للكلمات في الجمل، إذ لابد في كل لغة من ترتيب بين الفعل والفاعل والمفعول [تجرى معظم اللغات على أحد الأنماط الآتية :
- فعل +فاعل + مفعول
- فاعل + فعل + مفعول
- مفعول + فاعل + فعل
وبعضها يتميز بترتيب حر]، وكالعلاقة بين الصفة والموصوف، ووجود الفصائل النحوية...، وغير ذلك مما تجرى عليه دراسات كثيرة في الوقت الحاضر. والجانب الثاني هو الذي يطلق عليه «العمليات الكلية» Universal processes وهي العمليات اللغوية التي فطر عليها الإنسان، والتي تتجسد عند اكتساب لغته الأولى، ولعل أهمها مما له اتصال بموضوعنا أن الطالب الذي اكتسب لغته الأولى يعرف -بطريقة ما- «كيف» تؤدي لغته وظائف «اتصالية» وفي أي شيء يستعمل هذا التركيب أو ذاك، وهذا يساعده في معرفة «الوسائل النحوية» التي تتحقق بها هذه الوظائف في اللغة الأجنبية التي يتعلمها.
يقول Stevick « إن رفع الوعي يلقى الضوء على الطرق غير المألوفة، والعقبات الحتمية، التي لابد أن يسلكها المتعلم جيئة وذهابا وعيناه مغلقتان وهو لذلك يوفر كثيرا من الجهد والوقت. ومن الضروري أن يكون المدرس مدربا على أن يعرف هذه الطرق والعقبات وأن يعرف متى يستثمر رفع الوعي في صالح المتعلم».
[Stevick, E, Teaching languages: a way and ways,
Newbury House, Rowley, Massachusetts, 1980, p. 25l.]
ولكي نصل إلى ذلك في تعليم اللغة العربية لابد من بحوث جادة عن الكليات اللغوية خاصة عن طريق التقابل اللغوي، وبدراسة اللغة التي ينتجها الطلاب، ولابد من بحوث عن كيفية التكامل بين التعلم Instruction والتعرض اللغوي exposure الذي يحقق التعلم.
ثانيا: الربط بين البنية والمعنى:
ومبدأ التعلم يفضي بالضرورة إلى هذا المبدإ، ومن المعروف أن أصحاب البنائية قد ركزوا عملهم على «الأشكال» اللغوية منفصلة عن دلالاتها وجرى تعليم النحو في الأغلب الأعم على ذلك، وفي ذلك مجافاة لطبيعة اللغة من ناحية ولقوانين «التعلم» من ناحية أخرى. ذلك أن كل إنسان يرسخ لديه
-بعد اكتسابه للغته الأولى- أن ثمة علاقة وثيقة بين الشكل والمعنى، وأن طبيعة اللغة تؤكد أنه لا وجود لبنية ما مستقلة عن المعاني التي تحملها، وإذا كانت اللغة نظاما من أنظمة System of systms فإن اللغة كلها غير مستقلة بنائيا Structure dependan ومعنى ذلك أن التصورات الدلالية ليست تصورات تجريدية، ولا تسبح في فراغ، وإنما هي تتحقق بتراكيب نحوية
معينة، ويترتب على ذلك أن المتعلم عليه أن يتعلم «شبكة» من البنى النحوية تحقق «التصورات»
الدلالية التي ينتجها أو يستقبلها، وقد ثبت من بعض البحوث أن المسافة بين النحو والدلالة قد تتسع وقد تضيق لكنهاموجودة، وأن هذه المسافة تؤثر -من حيث التعلم- على مبدإ «السهولة» و«الصعوبة».
وأحسب أن هذا المبدأ يقتضينا في تعليم العربية ما يأتي:
1- دراسة العلاقات الداخلية بين البنى النحوية والدلالة في العربية، ثم تحديد العلاقات النحوية الدلالية الأساسية في العربية.
2- إذا كان المتعلم -كما ثبت- يميل - بتأثير من لغته الأولى- إلى أن تكون العلاقة بين النحو والمعنى علاقة مباشرة فإنه من الضروري أن نسعى إلى أن يكون ذلك هدفا من أهداف تعليم النحو.
3- إن المادة اللغوية التي تقدَّم ينبغي أن تخضع للتصنيف المتكامل الذي يهدف أساسا إلى معرفة الخصائص النحوية والدلالية لكل بنية، سواء أكانت على مستوى الكلمة، أم على مستوى التراكيب، فكل «فعل» يقدَّم، يجب أن يعرف المتعلم منه خصائصه المختلفة، من بنية صرفية وارتباطها بالدلالة، ومن علاقات نحوية، كالعمل، والتعدي المباشر وغير المباشر، وصلة ذلك بالمعنى. ومن ثم يكون ضروريا أن تكون المعاجم اللغوية التي تصنع لمتعلمي العربية مشتملة على ذلك.
ولهذا أشرنا آنفا إلى أن النحو العربي التراثي قد واجه نقدا عنيفا لدى البنائيين من أنه نحو يصدر عن المعنى، وتلك -في الحق- سمة جوهرية من سمات الدرس النحوي عند العرب منذ سيبويه، وعلينا أن نستثمر هذا الجانب الغني في النحو في التعليم.
ثالثا: النحو والخطاب:
والربط بين النحو والمعنى يقودنا إلى المبدإ الثالث، وهو ربط النحو بالخطاب discourse والذي لاشك فيه أن الخطاب هو الأساس في النشاط اللغوي، فنحن لا نتواصل «بكلمة» واحدة ولا «بجملة» واحدة وإنما نتواصل في الأغلب الأعم «بسلسلة» من الجمل أو«بكتل» كلامية.
والحق أن النحو، والدلالة، والخطاب تتشابك في علاقات داخلية لا تنفصم إحداها عن الأخرى:
أ - فالخطاب يحدد «نظاما» عاما لهيئة الكتل الكلامية أو لسلاسل الجمل.
ب - والدلالة تحدد الهيئة النحوية لمكونات الجملة.
جـ - والنحو هو الذي يحقق ذلك كله ويقدم للغة صفتها البشرية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن تعليم النحو ينبغي أن يكون له مسار آخر، إذ يجب ألا يقتصر على درس
درس الجمل المعزولة، والأمثلة المصنعة؛ لأنها لا تكوّن خطابا ، ولا تفي بمقتضياته، ومعنى ذلك أن النحو يجب أن يتسع فيشمل -إلى جانب قوانين نظام الجملة- قوانين نظام الجمل المترابطة، أو الكتل الكلامية أوالفقرة المكتوبة إن شئت.
ومن الملاحظ أن العربي يصل إلى قوانين النظام النحوي للخطاب عن طريق الاكتساب «بالتعرض» اللغوي المستمر، وهو لا يستطيع أن يعبر عن هذه القوانين بلغة علمية في أغلب الأحيان، والأمر مختلف عند غير الناطق بالعربية.
فالقوانين النحوية للخطاب غائبة في مقررات التعليم، ومن ثم نجد الخطاب عنده مكونا من جمل معطوقة، أو مربوطة ربطا غير صحيح، نتيجة «لتدخل» قوانين الربط في اللغة الأم، وعلى ذلك فإن مكونات النحو يجب أن تحتوي على قوانين الخطاب، وأهمها الرابط بين الجمل Cohesion ، ومن الملاحظ -مثلا- أن المقررات لا تشتمل على قوانين واضحة لعلامات الترقيم؛ من النقطة، والفاصلة، والفاصلة المنقوطة، وغيرها، وكلها قوانين تعبر عن النظام النحوي للخطاب، كل ذلك رغم ماقدمه علماء السلف في رسم المصحف من رموز عن الوصل والوقف لم نستثمرها في التعليم النحوي، لا فى العربية لأبنائها ولا لغير الناطقين بها.
رابعا: النحو، في منهج اتصالى:
والمبادئ الثلاثة كلها مقدمات تؤدي إلى المبدإ الرابع، وهو الأساس الذي لا يختلف عليه أحد من المختصين في تعليم اللغات، وهو أن كل شيء في التعليم اللغوي يجب أن يقدم في إطار منهج اتصالى Communicative Curriculum. ويبدو أنه الطريق الوحيد لجعل التعليم النحوي تعليما صحيحا. وليس الأمر يسيرا على أية حال، إذ يقتضي جهودا بحثية متكاملة ومتضافرة، وأمامنا للوصول إلى المنهج الاتصالى في تعليم النحو واجبات كثيرة لعلنا نوجز أهمها فيما يلى:
1- التخلص من تقديم النحو عن طريق الجمل المصطنعة أو المعزولة عن سياقها، والتخلص من صَيْغ النحو
بصيغة الجداول التصريفية والقاعدية الجامدة.
2- تقديم الظواهر النحوية من خلال نصوص لغوية موثقة، وهذه مسألة في الأهمية لأنها تربط النحو «بثقافة» العربية، واختيار النصوص الموثقة لايمكن أن يكون عشوائيا، وهو على أية حال له معاييره وأدواته العلمية. وبالإضافة إلى النصوص اللغوية الموثقة تقدم الظواهر النحوية من خلال الاستعمال في الخطاب اللغوي العام.
3- يترتب على ذلك أن تكون المادة اللغوية التي تقدم الظواهر النحوية مادة متاحة للطالب، يستطيع أن يجدها في يسر، سواء في المكتوب الشائع أو في المسموع المستعمل.
4- أن نتوقف عن تقديم الظواهر النحوية على أساس التدريج الطولي - gradation linear وعلينا أن نغيره إلى التدريج الدوري cyclic لأن الأول يركز على ظاهرة واحدة حتى يأتي
على كل جزئياتها، فيسقط المتعلم في الإحباط، ويفقد دافعية التعلم، إذ لا يجد بعد فترة طويلة إلا عددا
قليلا جدا من قوانين اللغة لا يجد مجالا لاستعمالها- أما التدريج الدوري فيقدم جزءا قليلا من ظاهرة إلى جانب جزء من ظواهر أخرى في الوقت الواحد، ثم « يدور» ليقدم جزءا آخر، وهكذا، فيجد المتعلم فى يده أدوات يستطيع استعمالها في الإنتاج والاستقبال بما يقوي دافعيته على التعلم.
5- إذا كانت حجرة الدراسة هي المصدر الوحيد للعربية فإن علينا أن نسعى أن نجعلها قريبة من «السياق الاجتماعي» بأن نتوقف عن الممارسة اللغوية الشكلية والآلية، وبأن يكون المبدأ هو كفاءة «التعلم» Competence of learning وليس كفاءة التعليم Competence of teaching وذلك بأن ندفع المتعلم إلى «التعلم» من الممارسة اللغوية «إنتاجا» و«استقبالا»، وأن يدخل المتعلمون في«تفاعل» لغوي ينشئ هذا السياق الاجتماعي الذي أشرنا إليه، وقد أثبتت البحوث أن إفادة الطلاب من بعضهم في الظواهر النحوية تفوق إفادتهم من المدرس إذا كان هو المصدر الوحيد للتعليم.
6- وحيث إنه يستحيل تقديم «كل» الظواهر النحوية في تعليم العربية لغير الناطقين بها فإنه من الضروري أن نقدم الظواهر الأساسية، مع الاستعانة بما أشرنا إليه آنفا من الكليات اللغوية؛ لأن ذلك سوف يمكنه من اختبار فرضياته، والوصول إلى التعميمات النحوية، وكل ذلك يؤدي إلى رفع «الوعي النحوي» عند المتعلم مما يمكنه من معرفة الظواهر النحوية الأخرى التى لا يمكن أن تحتويها المقررات الدراسية ويمكنه من اختبار فرضياته، والوصول إلى التعميمات النحوية، ويمكنه من استعمال اللغة استعمالا يقرب من «الاكتساب».
وبهذا فقد يبدو هذا التقديم «نظريا»؛ لكنه فى الحق ثمرة لكثير من البحوث الحقلية التى أجراها المختصون في تعليم اللغات الأجنبية، ومن الملاحظات الفردية المبعثرة التي نخرج بها نحن الباحثين العرب من مما رستنا في تعليم العربية، على أن هذا التقديم «النظري» مقصود لذاته، إذ يستحيل التقدم في عمل علمي حقيقي دون وجود إطار نظري يحكمه ويحدد مساره.
والله من وراء القصد
محمود عبد الصمد الجيار- عدد المساهمات : 41
العمر : 34
مواضيع مماثلة
» تعليم العربية في عصر ثورة الاتصالات
» عبده الراجحي: تعليم العربية.. إلى أين؟ (( محمود عبد الصمد الجيار ))
» اللغة العربية والتكامل المعرفي
» عبده الراجحي: تعليم العربية.. إلى أين؟ (( محمود عبد الصمد الجيار ))
» اللغة العربية والتكامل المعرفي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء مارس 22, 2016 11:40 pm من طرف أبو مصعب بربروس
» لتكن حياتك مرتبطة بذكر الله
الأحد مارس 20, 2016 10:39 am من طرف أ . حسام كيوان
» القيم المستنبطة من سورة الاسراء
الإثنين ديسمبر 08, 2014 6:23 pm من طرف mr.gevara
» ملخص مادة الأحوال الشخصية لجامعة القدس المفتوجة برنامج التنمية
الجمعة أكتوبر 10, 2014 7:36 pm من طرف احمد الزعتر
» رسالة الاساذ زياد خربوطلي
الخميس سبتمبر 25, 2014 12:08 am من طرف اسعد الفرا
» حقيقة الأسير وشروطه
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الحرية في الإسلام
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الحسبة بين النظرية والتطبيق
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الوسطية في الإسلام
الأحد مايو 25, 2014 9:05 pm من طرف طالب