اللغة العربية والتكامل المعرفي
صفحة 1 من اصل 1
اللغة العربية والتكامل المعرفي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللغة العربية والتكامل المعرفي
للأستاذ الدكتور عبده الراجحي
[مجلة مجمع اللغة العربية، العدد 116، ألقيت هذه المحاضرة في الجلسةالثانيةوالعشرين من جلسات
مؤتمر المجمع في دورته الرابعة والسبعين، ظهر يوم الاثنين: 22 من ربيع الآخر سنة 1429 هـ، الموافق 28 من إبريل «نيسان» سنة 2008 م]
بسم الله الرحمن الرحيم، نحمد الله تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
وبعد:
فالذي لا شك فيه أن المجمع حين اختار لمؤتمره هذا العام:«اللغة العربية وتحديات العصر» إنما هدته البصيرة إلى جوهر قضية الوجود العربي؛ لأن كل القضايا الأخرى من سياسة، واقتصاد، واجتماع، وغيرها إنما هي أعراض لهذا الجوهر، ومن هنا كان تحفظ شيخنا «كمال بشر» بل تخوفه، في إحدى جلسات المجمع أن بحث وضع العربية أمام تحديات العصر يعني أولا تغيير«العقل العربي»، وفي تخوفه وتحفظه قدر كبير من الصواب؛ لأن اللغة حركة الإنسان، وسكونه، وفعله، بل هي هو تلازما وجوديا. على أن مشكلة الأسبقية بين العقل واللغة لم يفصل فيها أحد إلى اليوم، ومن ثم فإن أهل العلم ما ينبغي لهم أن يتخوفوا، بل عليهم أن يرودوا، وأن يقودوا مجتمعاتهم وأن يلفتوها إلى الوقائع وإلى المصائر...
وتحت هذه المظلة التي اختارها المجتمع يأتي هذا الحديث المتواضع.
أيها السادة:
حين نتحدث عن تحديات العصر فإنما نتحدث عن «خصائصه» التي تسود حياة الناس الآن، وهي خصائص تتصل بطبيعة الإيقاع، وأشكال الحركة، ومواطن التوجه العام، يحكمها في ذلك عنصر مهيمن، هو عنصر امتلاك المعرفة، وهو العنصر الذي تسكن فيه «القوة» الحقيقية في الحياة المعاصرة.
ومن يمتلك المعرفة فقد خط لنفسه الآن مجرى لا يبتعد عنه إلا الغافلون، من أصل خصائصه أنه لا يصلح للتصدي لقضية ما صغرت أو كبرت علم واحد، ولابد من تضافر العلوم وتكاملها، ومن ثم يعرف عصرنا بأنه عصر العلوم البينية. interdisciplinary systems؛ فاختفى العمل الفردي؛ بل كاد كاد يصير مُحرَّما، وأصبح العمل الجماعي فرضا واجبا، واندثر النظر القائم على السبب والتأثير cause - effect ، وساد توجه الترابط والتعالقcrrelation .
مانريد أن نطيل في هذا التقديم الضروري.. وندلف إلى موقع العربية من هذا التكامل المعرفي.
أيها السادة:
لقد وقر عند كثيرين أن المتخصصين في العربية قد «حجروا» على أنفسهم واسعا، فانكفؤوا في كهوف ضيقة في الصرف أو النحو أو غيرهما لا يتنفسون هواء آخر، ويبدو أن ذلك صحيح للأسف في جملته، فلا يزال ليس صحيحا على إطلاقه، فثمة من شرع ينغمس في الإيقاع الجديد، بحسبانه عنصرا غير منعزل، بل بصفته شريكا جوهريا في التصدي لقضايا المعرفة المعقدة، أخذ الاهتمام يزداد يوما بعد يوم مدفوعا بقيمة «الإنجاز» وإسهامه في ثقافة العصر. وإني مشير هنا إلى أمثلة قليلة من مجالات هذا التصدي أراها كافية في الدلالة على أن اللغة هي المدخل الأول للولوج إلى العصر.
(1) العربية والطب وعلم النفس:
لم يكن علم «التشريح» بعيدا عن درس الأصوات منذ القرون الأولى، ولا يزال إنجاز الشيخ الرئيس شاهدا ماثلا بين أيدينا، وقد أصبح هذا العلم مقررا تعليميا واجبا على دارس الأصوات، ولقد جرت فى مدينة الملك عبد العزيز بالرياض منذ ما يزيد على عشرة سنوات تجربة رائدة في وصف عملية النطق والتحديد الدقيق لكل صوت، تكاملت فيها علوم اللغة والطب والرياضيات.
جرت التجربة بتطبيق تقنية جديدة بإدخال منظار طبي دقيق إلى الحلق تصور فيه الكاميرا أصوات العربية ابتداء من الحنجرة ثم في الحلق، ثم في التجويف الأنفي والفموي، ويرتبط ذلك كله ببرنامج حاسوبى يقيس أبعاد كل صوت قياسا رياضيا دقيقا، بحيث يمكن للحاسوب أن ينطق أي نص لغوي بالصوت الذي جرى وصفه وتحليله فيما يعرف بعد ذلك بـ(تخليف الكلام synthesis ). وفي أيامنا هذه تساور العارفين شكوك قوية حين يظهر على شاشة التلفاز شخص ما يلقى بيانا ما بصوته المعروف، تستثمره جهات معينه في توجيه الأحداث نحو تحقيق غاياتها.
على أن ثمة مجالين كبيرين يستأثران الآن باهتمام الباحثين في العالم المتقدم؛ أولهما مشكلات التخاطب. وثانيهما أسرار الاكتساب اللغوي.
أما مشكلات التخاطب أو ما يعرف أحيانا بأمراض الكلام speech pathology فهي ظاهرة منتشرة في لغات العالم، ومن بينها العربية بطبيعة الحال، وقد كنا نظن يوما أن هذه المشكلات تتصل بأخطاء النطق كالفأفأة والتهتهة وعدم القدرة على نطق الراء وغيرها. غير أن الظاهرة أكبر من ذلك بكثير إذ إن عددا غير قليل من الأطفال لا يستطيع نطق نصف أصوات اللغة؛ لأسباب عضوية organic أو وظيفية functional.
وكانت كلية الطب بجامعة عين شمس رائدة هذا الميدان في مصر، إذ أسس العالم الكبير الدكتور قطبي هذا التخصص phonejatrics في قسم الأنف والأذن والحنجرة، ثم تبعته جامعة الإسكندرية في شعبة السمعياتaudiology وقد أجريت حتى الآن بحوث ودراسات ومعالجات غير قليلة يشترك فيها اللغوي والطبيب وعالم النفس، ومن الأمثلة الشائعة جدا فى هذا المجال مشكلات الحنك المشقوقcleft palate أي تشوهات فيه لأسباب متعددة تقتضى استئصالا كليا أو جزئيات للفك الأعلى، وتجري هذه البحوث مع قسم الاستعاضة بطب الأسنان.
ومنها تأثير خلع الأسنان والتركيبات الاصطناعية على النطق بخاصة عند الذين يمثل النطق السليم عندهم أهمية كبيرة كقراء القرآن الكريم، والمذيعين، والممثلين، والمطربين، ورجال السياسة وغيرهم. ومن المجالات المهمة جدا ما يتصل بالأطفال ذوي الإعاقة العقلية أو السمعية أو الحركية «الشلل المخي»cerebral palsy وهؤلاء يتسمون بخلل كبير في الكلام، وبمعجم لغوي محدود جدا وبقصور في عمليات فهم اللغة.
ومن مشكلات التخاطب المنتشرة جدا ما يعرف بـ «البحة» hoarseness التي تنتج عن شلل في الأحبال الصوتية، أو أورام صلبة «حبيبات» nodules أو أكياس مائية، أو زوائد لحمية granuloma أو زوائد حنجرية laryngeal papillona .
أما مشكلاتالاتصال الكلامي عند «الصم» فهي من الشيوع والأهمية على ما تعرفون، وكثير من البحوث التي تجرى في هذا الشأن تقع فيما يعرف بقراءة الشفاه: speech reading، ومن إجراءاتها تخليق الكلام المرئي visual speech synthesis حيث جرى صناعة نماذج تحاكي الوجه البشري آليا ثم يدرب الصم على تعلم الكلام بصريا.
تلك أمثلة قليلة فيما يجري الآن في العالم، وما يقترب من شيء منه في مصر، وهي تؤكد أن من تحديات العصر ضرورة الانغماس في ثقافة التكامل المعرفي، إذ يستحيل أن يعرض لمشكلة من هذه المشكلات تخصص واحد. على أني أود أن ألفت أن دور اللغوي جوهري جدا في التكامل، فمهما تكن كفاءة التناول الطبي والنفسي فلن تصل إلى علاج حقيقي ما لم تكن هناك كفاءة في معرفة اللغة وطبيعتها والوصف الصحيح لأنظمتها المختلفة. [انظر في هذا رسالة الماجستير التي قدمتها الدكتورة وفاء عمار عن قراءة الشفاه، والدكتوراه عن أمراض الكلام عند الأطفال المصريين. والدكتورة روحية أحمد في بحثها في الماجستير عن الأطفال المغول، والدكتوراه عن مشكلات التخاطب عند الأطفال ذوي الإعاقة العقلية في الإسكندرية. وكذلك رسالة الدكتوراه التي قدمتها منى بشر عن تأثير التركيبات الصناعية على النطق وهي طبيبة أسنان التحقت بعد ذلك بقسم اللغة العربية، وهذه الأعمال جرت بإشراف متكامل من المتحدث إليكم ومتخصصين في الطب. وفي طب الأسنان وعلم النفس]
(2) العربية والهندسة:
إن ارتباط البحث اللغوي بفروع الهندسة صار ارتباط جوهريا منذ زمان غير قريب، غير أنه تطور في العقود الأخيرة تطورا كبيرا وبخاصة في مجال الرياضيات والفيزياء والهندسة الكهربية، وليس ثمة حاجة إلى التذكير بأهمية هذه الفروع في درس الأصوات، على أننا قد نكتفي هنا بالأشارة إلى التكامل المعرفي الضروري بين اللغة والحاسوب، وقد عرضت لهذه القضية أوراق بحثية كثيرة في هذا المؤتمر وفي غيره من المؤتمرات، غير أن التوجه لا يزال ينحصر في أيسر التطبيقات كالفهرسة والمعاجم الإلكترونية وغيرها -والأمر أكبر من ذلك بكثير- فالذي لا شك فيه أن «الحاسوب» صار سمة أصيلة من سمات العصر، والتكامل بينه وبين اللغات أصل من أصول النشأة، والنتائج في العالم المتقدم ماثلة فيما نراه من هيمنة في العصر الحاضر -والمجال واسع جدا وهو يتطور تطورا سريعا- وسوف أكتفي بالإشارة إلى واحد فحسب هو الذخائر أو المدونات أو المتون اللغوية corpra وقد دعا إلى ولوجها أهل الهمة من إخواننا علماء المغرب والجزائر، ولكن الأمر لا يزال على ما نعرف وبخاصة فى المشرق العربي حيث القدرات البشرية والمالية. لقد أصبح الأمر ميسرا أن نخزن في الحاسوب كل ما جرى أداؤه بالعربية منذ العصر الجاهلي إلى الآن بتنوعاته المختلفة، لكن المسألة لا تكمن في عملية الخزن بل في المعالجة، وهنا يبدأ التكامل المعرفى الحقيقي.
إن الأمر يتقضي تطورا في العقل اللغوي العربي بحيث ينغمس في وصف علمي حقيقي لأنظمة العربية في الصوت والكتابة والصرف والتراكيب والدلالة، وأن يجرى ذلك مع الحاسوبي وبخاصة في البرمجة للتواصل إلى أنظمة متقنة للمعالجة، ولقد ثبت أن هذا التكامل يفضي إلى نتائج مهمة جدا نجتزئ منها ما يلي:
أ - التوصل إلى نسب الشيوع في الألفاظ والتراكيب والمصاحبات اللغوية الوظيفية والمعجمية، ولقد صار ذلك أصلا من أصول صناعة المعاجم اللغوية على اختلاف أنواعها من معاجم الأطفال إلى المعاجم الكبيرة والمعجم التاريخي.
وهو أيضا أصل لا يمكن الاستغناء عنه في اختيار المواد التعليمية للعربية لغة أولى وللعربية لغة أجنبية في مراحلها المختلفة وعلى تنوع السياقات التعليمية.
وقد أشير هنا إلى البرنامج الحاسوبي المشهور في تعليم اللغات الأوربية المعروف بــ CALL.
Computer assisted language learning.
الذي بدأ البحث فيه عام )1965م (في الولايات المتحدة وقد تطور الآن -في أشكاله الأوربية- بما غير عملية التعليم اللغوي تغييرا كبيرا إذ أسهم في توفير نصف الوقت الذي كان ينفق في التعليم التقليدي الذي لا يزال سائدا في بلادنا واستثماره في تنمية التعليم الاتصالي للغة Communicative approach.
ب - الإسهام الجوهري في برنامج الترجمة الآلية machine translation التي أصبحت الآن ضرورية في العالم الجديد لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية، وما أريد أن أحدثكم عن معاناة العالم المتقدم من نقص الخبرة العربية في هذا الحقل المعرفي.
أيها السادة:
إن الحديث عن العربية والتكامل المعرفي واسع ومتشعب، وما عرضناه كاف للدلالة على ما أردناه من أن تحديات العصر تقتضي تغيرا نوعيا في أنماط التفكير وفي شكل الحركة ودرجة الإيقاع، وكل أولئك حقيق بأهل هذه اللغة بريادة أسلافنا في ذلك وبالمحاولات الفردية الحيية التي تجري في بلادنا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
أ.د عبده الراجحى
عضو المجمع
اللغة العربية والتكامل المعرفي
للأستاذ الدكتور عبده الراجحي
[مجلة مجمع اللغة العربية، العدد 116، ألقيت هذه المحاضرة في الجلسةالثانيةوالعشرين من جلسات
مؤتمر المجمع في دورته الرابعة والسبعين، ظهر يوم الاثنين: 22 من ربيع الآخر سنة 1429 هـ، الموافق 28 من إبريل «نيسان» سنة 2008 م]
بسم الله الرحمن الرحيم، نحمد الله تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
وبعد:
فالذي لا شك فيه أن المجمع حين اختار لمؤتمره هذا العام:«اللغة العربية وتحديات العصر» إنما هدته البصيرة إلى جوهر قضية الوجود العربي؛ لأن كل القضايا الأخرى من سياسة، واقتصاد، واجتماع، وغيرها إنما هي أعراض لهذا الجوهر، ومن هنا كان تحفظ شيخنا «كمال بشر» بل تخوفه، في إحدى جلسات المجمع أن بحث وضع العربية أمام تحديات العصر يعني أولا تغيير«العقل العربي»، وفي تخوفه وتحفظه قدر كبير من الصواب؛ لأن اللغة حركة الإنسان، وسكونه، وفعله، بل هي هو تلازما وجوديا. على أن مشكلة الأسبقية بين العقل واللغة لم يفصل فيها أحد إلى اليوم، ومن ثم فإن أهل العلم ما ينبغي لهم أن يتخوفوا، بل عليهم أن يرودوا، وأن يقودوا مجتمعاتهم وأن يلفتوها إلى الوقائع وإلى المصائر...
وتحت هذه المظلة التي اختارها المجتمع يأتي هذا الحديث المتواضع.
أيها السادة:
حين نتحدث عن تحديات العصر فإنما نتحدث عن «خصائصه» التي تسود حياة الناس الآن، وهي خصائص تتصل بطبيعة الإيقاع، وأشكال الحركة، ومواطن التوجه العام، يحكمها في ذلك عنصر مهيمن، هو عنصر امتلاك المعرفة، وهو العنصر الذي تسكن فيه «القوة» الحقيقية في الحياة المعاصرة.
ومن يمتلك المعرفة فقد خط لنفسه الآن مجرى لا يبتعد عنه إلا الغافلون، من أصل خصائصه أنه لا يصلح للتصدي لقضية ما صغرت أو كبرت علم واحد، ولابد من تضافر العلوم وتكاملها، ومن ثم يعرف عصرنا بأنه عصر العلوم البينية. interdisciplinary systems؛ فاختفى العمل الفردي؛ بل كاد كاد يصير مُحرَّما، وأصبح العمل الجماعي فرضا واجبا، واندثر النظر القائم على السبب والتأثير cause - effect ، وساد توجه الترابط والتعالقcrrelation .
مانريد أن نطيل في هذا التقديم الضروري.. وندلف إلى موقع العربية من هذا التكامل المعرفي.
أيها السادة:
لقد وقر عند كثيرين أن المتخصصين في العربية قد «حجروا» على أنفسهم واسعا، فانكفؤوا في كهوف ضيقة في الصرف أو النحو أو غيرهما لا يتنفسون هواء آخر، ويبدو أن ذلك صحيح للأسف في جملته، فلا يزال ليس صحيحا على إطلاقه، فثمة من شرع ينغمس في الإيقاع الجديد، بحسبانه عنصرا غير منعزل، بل بصفته شريكا جوهريا في التصدي لقضايا المعرفة المعقدة، أخذ الاهتمام يزداد يوما بعد يوم مدفوعا بقيمة «الإنجاز» وإسهامه في ثقافة العصر. وإني مشير هنا إلى أمثلة قليلة من مجالات هذا التصدي أراها كافية في الدلالة على أن اللغة هي المدخل الأول للولوج إلى العصر.
(1) العربية والطب وعلم النفس:
لم يكن علم «التشريح» بعيدا عن درس الأصوات منذ القرون الأولى، ولا يزال إنجاز الشيخ الرئيس شاهدا ماثلا بين أيدينا، وقد أصبح هذا العلم مقررا تعليميا واجبا على دارس الأصوات، ولقد جرت فى مدينة الملك عبد العزيز بالرياض منذ ما يزيد على عشرة سنوات تجربة رائدة في وصف عملية النطق والتحديد الدقيق لكل صوت، تكاملت فيها علوم اللغة والطب والرياضيات.
جرت التجربة بتطبيق تقنية جديدة بإدخال منظار طبي دقيق إلى الحلق تصور فيه الكاميرا أصوات العربية ابتداء من الحنجرة ثم في الحلق، ثم في التجويف الأنفي والفموي، ويرتبط ذلك كله ببرنامج حاسوبى يقيس أبعاد كل صوت قياسا رياضيا دقيقا، بحيث يمكن للحاسوب أن ينطق أي نص لغوي بالصوت الذي جرى وصفه وتحليله فيما يعرف بعد ذلك بـ(تخليف الكلام synthesis ). وفي أيامنا هذه تساور العارفين شكوك قوية حين يظهر على شاشة التلفاز شخص ما يلقى بيانا ما بصوته المعروف، تستثمره جهات معينه في توجيه الأحداث نحو تحقيق غاياتها.
على أن ثمة مجالين كبيرين يستأثران الآن باهتمام الباحثين في العالم المتقدم؛ أولهما مشكلات التخاطب. وثانيهما أسرار الاكتساب اللغوي.
أما مشكلات التخاطب أو ما يعرف أحيانا بأمراض الكلام speech pathology فهي ظاهرة منتشرة في لغات العالم، ومن بينها العربية بطبيعة الحال، وقد كنا نظن يوما أن هذه المشكلات تتصل بأخطاء النطق كالفأفأة والتهتهة وعدم القدرة على نطق الراء وغيرها. غير أن الظاهرة أكبر من ذلك بكثير إذ إن عددا غير قليل من الأطفال لا يستطيع نطق نصف أصوات اللغة؛ لأسباب عضوية organic أو وظيفية functional.
وكانت كلية الطب بجامعة عين شمس رائدة هذا الميدان في مصر، إذ أسس العالم الكبير الدكتور قطبي هذا التخصص phonejatrics في قسم الأنف والأذن والحنجرة، ثم تبعته جامعة الإسكندرية في شعبة السمعياتaudiology وقد أجريت حتى الآن بحوث ودراسات ومعالجات غير قليلة يشترك فيها اللغوي والطبيب وعالم النفس، ومن الأمثلة الشائعة جدا فى هذا المجال مشكلات الحنك المشقوقcleft palate أي تشوهات فيه لأسباب متعددة تقتضى استئصالا كليا أو جزئيات للفك الأعلى، وتجري هذه البحوث مع قسم الاستعاضة بطب الأسنان.
ومنها تأثير خلع الأسنان والتركيبات الاصطناعية على النطق بخاصة عند الذين يمثل النطق السليم عندهم أهمية كبيرة كقراء القرآن الكريم، والمذيعين، والممثلين، والمطربين، ورجال السياسة وغيرهم. ومن المجالات المهمة جدا ما يتصل بالأطفال ذوي الإعاقة العقلية أو السمعية أو الحركية «الشلل المخي»cerebral palsy وهؤلاء يتسمون بخلل كبير في الكلام، وبمعجم لغوي محدود جدا وبقصور في عمليات فهم اللغة.
ومن مشكلات التخاطب المنتشرة جدا ما يعرف بـ «البحة» hoarseness التي تنتج عن شلل في الأحبال الصوتية، أو أورام صلبة «حبيبات» nodules أو أكياس مائية، أو زوائد لحمية granuloma أو زوائد حنجرية laryngeal papillona .
أما مشكلاتالاتصال الكلامي عند «الصم» فهي من الشيوع والأهمية على ما تعرفون، وكثير من البحوث التي تجرى في هذا الشأن تقع فيما يعرف بقراءة الشفاه: speech reading، ومن إجراءاتها تخليق الكلام المرئي visual speech synthesis حيث جرى صناعة نماذج تحاكي الوجه البشري آليا ثم يدرب الصم على تعلم الكلام بصريا.
تلك أمثلة قليلة فيما يجري الآن في العالم، وما يقترب من شيء منه في مصر، وهي تؤكد أن من تحديات العصر ضرورة الانغماس في ثقافة التكامل المعرفي، إذ يستحيل أن يعرض لمشكلة من هذه المشكلات تخصص واحد. على أني أود أن ألفت أن دور اللغوي جوهري جدا في التكامل، فمهما تكن كفاءة التناول الطبي والنفسي فلن تصل إلى علاج حقيقي ما لم تكن هناك كفاءة في معرفة اللغة وطبيعتها والوصف الصحيح لأنظمتها المختلفة. [انظر في هذا رسالة الماجستير التي قدمتها الدكتورة وفاء عمار عن قراءة الشفاه، والدكتوراه عن أمراض الكلام عند الأطفال المصريين. والدكتورة روحية أحمد في بحثها في الماجستير عن الأطفال المغول، والدكتوراه عن مشكلات التخاطب عند الأطفال ذوي الإعاقة العقلية في الإسكندرية. وكذلك رسالة الدكتوراه التي قدمتها منى بشر عن تأثير التركيبات الصناعية على النطق وهي طبيبة أسنان التحقت بعد ذلك بقسم اللغة العربية، وهذه الأعمال جرت بإشراف متكامل من المتحدث إليكم ومتخصصين في الطب. وفي طب الأسنان وعلم النفس]
(2) العربية والهندسة:
إن ارتباط البحث اللغوي بفروع الهندسة صار ارتباط جوهريا منذ زمان غير قريب، غير أنه تطور في العقود الأخيرة تطورا كبيرا وبخاصة في مجال الرياضيات والفيزياء والهندسة الكهربية، وليس ثمة حاجة إلى التذكير بأهمية هذه الفروع في درس الأصوات، على أننا قد نكتفي هنا بالأشارة إلى التكامل المعرفي الضروري بين اللغة والحاسوب، وقد عرضت لهذه القضية أوراق بحثية كثيرة في هذا المؤتمر وفي غيره من المؤتمرات، غير أن التوجه لا يزال ينحصر في أيسر التطبيقات كالفهرسة والمعاجم الإلكترونية وغيرها -والأمر أكبر من ذلك بكثير- فالذي لا شك فيه أن «الحاسوب» صار سمة أصيلة من سمات العصر، والتكامل بينه وبين اللغات أصل من أصول النشأة، والنتائج في العالم المتقدم ماثلة فيما نراه من هيمنة في العصر الحاضر -والمجال واسع جدا وهو يتطور تطورا سريعا- وسوف أكتفي بالإشارة إلى واحد فحسب هو الذخائر أو المدونات أو المتون اللغوية corpra وقد دعا إلى ولوجها أهل الهمة من إخواننا علماء المغرب والجزائر، ولكن الأمر لا يزال على ما نعرف وبخاصة فى المشرق العربي حيث القدرات البشرية والمالية. لقد أصبح الأمر ميسرا أن نخزن في الحاسوب كل ما جرى أداؤه بالعربية منذ العصر الجاهلي إلى الآن بتنوعاته المختلفة، لكن المسألة لا تكمن في عملية الخزن بل في المعالجة، وهنا يبدأ التكامل المعرفى الحقيقي.
إن الأمر يتقضي تطورا في العقل اللغوي العربي بحيث ينغمس في وصف علمي حقيقي لأنظمة العربية في الصوت والكتابة والصرف والتراكيب والدلالة، وأن يجرى ذلك مع الحاسوبي وبخاصة في البرمجة للتواصل إلى أنظمة متقنة للمعالجة، ولقد ثبت أن هذا التكامل يفضي إلى نتائج مهمة جدا نجتزئ منها ما يلي:
أ - التوصل إلى نسب الشيوع في الألفاظ والتراكيب والمصاحبات اللغوية الوظيفية والمعجمية، ولقد صار ذلك أصلا من أصول صناعة المعاجم اللغوية على اختلاف أنواعها من معاجم الأطفال إلى المعاجم الكبيرة والمعجم التاريخي.
وهو أيضا أصل لا يمكن الاستغناء عنه في اختيار المواد التعليمية للعربية لغة أولى وللعربية لغة أجنبية في مراحلها المختلفة وعلى تنوع السياقات التعليمية.
وقد أشير هنا إلى البرنامج الحاسوبي المشهور في تعليم اللغات الأوربية المعروف بــ CALL.
Computer assisted language learning.
الذي بدأ البحث فيه عام )1965م (في الولايات المتحدة وقد تطور الآن -في أشكاله الأوربية- بما غير عملية التعليم اللغوي تغييرا كبيرا إذ أسهم في توفير نصف الوقت الذي كان ينفق في التعليم التقليدي الذي لا يزال سائدا في بلادنا واستثماره في تنمية التعليم الاتصالي للغة Communicative approach.
ب - الإسهام الجوهري في برنامج الترجمة الآلية machine translation التي أصبحت الآن ضرورية في العالم الجديد لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية، وما أريد أن أحدثكم عن معاناة العالم المتقدم من نقص الخبرة العربية في هذا الحقل المعرفي.
أيها السادة:
إن الحديث عن العربية والتكامل المعرفي واسع ومتشعب، وما عرضناه كاف للدلالة على ما أردناه من أن تحديات العصر تقتضي تغيرا نوعيا في أنماط التفكير وفي شكل الحركة ودرجة الإيقاع، وكل أولئك حقيق بأهل هذه اللغة بريادة أسلافنا في ذلك وبالمحاولات الفردية الحيية التي تجري في بلادنا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
أ.د عبده الراجحى
عضو المجمع
محمود عبد الصمد الجيار- عدد المساهمات : 41
العمر : 34
مواضيع مماثلة
» اللغة العربية في إطار متطلبات الجامعة
» كلمة الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي في حفل استقباله عضوًا جديدًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة
» علم اللغة العام - للدكتور عبده الراجحي
» كلمة الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي في حفل استقباله عضوًا جديدًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة
» علم اللغة العام - للدكتور عبده الراجحي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء مارس 22, 2016 11:40 pm من طرف أبو مصعب بربروس
» لتكن حياتك مرتبطة بذكر الله
الأحد مارس 20, 2016 10:39 am من طرف أ . حسام كيوان
» القيم المستنبطة من سورة الاسراء
الإثنين ديسمبر 08, 2014 6:23 pm من طرف mr.gevara
» ملخص مادة الأحوال الشخصية لجامعة القدس المفتوجة برنامج التنمية
الجمعة أكتوبر 10, 2014 7:36 pm من طرف احمد الزعتر
» رسالة الاساذ زياد خربوطلي
الخميس سبتمبر 25, 2014 12:08 am من طرف اسعد الفرا
» حقيقة الأسير وشروطه
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الحرية في الإسلام
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الحسبة بين النظرية والتطبيق
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الوسطية في الإسلام
الأحد مايو 25, 2014 9:05 pm من طرف طالب