تفسير سورة الفيل بمنظور واقعي
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الفيل بمنظور واقعي
تفسير سورة الفيل بمنظور واقعي
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ , أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ , وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ ,تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ , فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }
المقدمة
الحمد لله الرحمن ، علم بالقلم ، علم البيان ، علم الإنسان ما لم يعلم ، أنزل خير كتبه عربياً ، على النبي الأمي العربي خير أنبيائه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
أما بعد ، فإن علم التفسير من أشرف العلوم ؛ لأنه يتعلق ببيان كلام رب السموات والأرض ، الذي هو أشرف كلام ، وأعلاه وأجله ، وقد أردت أن أنخرط في سلك هذا العلم ، وأحوز شرف بيان كلام الرب ، وأسأل الله سبحانه أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون من الخير المقدم بين يدي يوم ألقاه ، وأن يكون شافعاً لي يوم العرض الأكبر .
وتأتي أهمية هذا البحث لكثرة فائدته من قبل عامة الناس , عالمهم وجاهلهم , صغيرهم وكبيرهم , ذكرهم وأنثاهم , فالجميع بحاجة إلى معرفة معنى الآيات التي يتلونها .
وقد تطرقت في بحثي هذا إلى تفسير سورة الفيل وبيان معنى الآيات وإعرابها وأحكامها ودلائلها وما يستنبط منها من أحكام وعبر , والإنسياق بالقصة التاريخية الشيقة والتي تظهر لنا مدى حرمة بيت الله الحرام وقدسيته منذ الأزل إلى أن تقوم الساعة , مستنداً في ذلك كله إلى المصادر الأساسية في البحث العلمي المرموق والموثوق .
والله ولي التوفيق إعداد الأستاذ حسام حسن كيوان
التعريف بالسورة :
1) سورة مكية .
2) من المفصل .
3) آياتها 5 , وهي 96 حرفاً ، و 20 كلمة
4) ترتيبها بالمصحف الخامسة بعد المائة .
5) نزلت بعد سورة الكافرون .
6) تبدأ بأسلوب استفهام " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل "
7) لم يذكر لفظ الجلالة في السورة .
8 ) تقع في الجزء (30) ـ الحزب ( 60) ـ الربع ( 8) .
8 ) ومضة : عن عاصم عن زر عن أُبيّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
{من قرأ سورة الفيل عافاه اللّه عزّوجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ }
المفردات الغريبة :
ألم تر كيف فعل ربك : أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل .
بأصحاب الفيل : أي محمود وهي أكبرها ومعه اثنا عشر فيلاً وصاحبها أبرهة.
والْفِيل حيوان من أضخم الحيوانات له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به ، ويجمع على أفيال وفيلة وفيول ومؤنثه فيلة ، والفيل أيضا : الخسيس الثقيل .
ألم يجعل كيدهم : أي تآمرهم في هدم الكعبة .
في تضليل : أي في خسار وهلاك .
أَبابِيلَ : قال ابن خالويه : « أبابيل نعت للطير أي جماعات واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل ، وقال أبو جعفر الرؤاسي : واحدتها إبّيل وقال آخرون : أبابيل لا واحد لها ومثلها أساطير وذهب القوم شماطيط وعبابيد وعباديد كل ذلك لم يسمع واحده وقال آخرون : واحد الأساطير أسطورة
سِجِّيلٍ : طين مطبوخ محرق كالآجر ، وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين .
كعصف مأكول : أي كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها .
وقد ورد خلاف في تفسير العصف على أقوال :
1- ورق الحنطة ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
2- التبن ، عن قتادة من طريق معمر .
3- كزرع مأكول ، عن الضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، وقال : "ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار روثاً" .
4- قشر البر الذي يكون فوق الجنة ، عن ابن عباس من طريق العوفي .
ويظهر من أصل مادة عصف :أن العصف هو ما يعصف ، أي : يحطم من الزرع ، وهذا الوصف يشمل جميع ما قاله السلف ، فتكون أقوالهم أشبه بالأمثلة لشيء من النبات المعصوف والله أعلم .
إعراب الآيات وبيان أوجه البلاغة :
كيف : اسم استفهام في محل نصب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني قال وعندي بأنها تأتي في هذا النوع مفعولاً مطلقاً أيضاً وإن منه : كيف فعل ربك إذ المعنى « أي فعل فعل ربك ولا يتجه فيه أن يكون حالاً من الفاعل » أي وهو ربك لأنه يقتضي أن الفاعل وهو الرب متّصف بالكيفيات والأحوال لأن المعنى فعل ربك حال كونه على أي حالة وكيفية واتصافه بها محال والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعولي تر لأن الرؤية قلبية تفيد العلم الضروري المساوي في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان ،
بأصحاب الفيل : متعلقان بفعل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو يعود على اللّه تعالى وكيدهم مفعول به أول وفي تضليل في موضع المفعول الثاني
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ : الواو حرف عطف وأرسل عطف على ألم نجعل لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعليهم متعلقان بأرسل وطيراً مفعول به وأبابيل نعت لطيراً لأنه اسم جمع
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ : الجملة نعت ثان لطيراً وترميهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبحجارة متعلقان بترميهم ومن سجّيل نعت لحجارة
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ : الفاء عاطفة وجعلهم فعل ماض وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وكعصف في موضع المفعول الثاني ومأكول نعت لعصف .
المعنى الإجمالي للآيات :
تحكي هذه السورة قصة أبرهة الحبشي الذي جاء لهدم الكعبة في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وتذكر ما حصل لهم من العقاب .
قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل*ألم يجعل كيدهم في تضليل} ؛ أي : ألم تعلم بما صنعه الله بأبرهة وقومه الذين غزو مكة بجيش فيه أفيال ، وأرادوا أن يهدموا الكعبة ؟ ، لقد جعل الله سعيهم وتدبيرهم في صرف الناس عن الكعبة ومحاولة هدمها عملا ضائعاً لا فائدة فيه .
قوله{وأرسل عليهم طيرا أبابيل*ترميهم بحجارة من سجيل*فجعلهم كعصف مأكول} ؛ أي : وألم تعلم بما عاقبهم به من بعث طيور من السماء جاءت جماعات كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضاً ، تحمل حصى صغيرة من طين ، تلقيه على أصحاب الفيل ، ، فتقضي عليهم ، حتى صاروا كبقايا الزرع المأكول الذي تحول بعد الخضرة والنصرة ، إلى أن صار ملقى على الأرض يداس بالأقدام ؟ .
قصة الآيات وسبب نزولها :
هذه الآيات تضمنت الحديث عن حادث جلل وقع أمام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وخلاصته أن أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحبشة قد رأى أن يبني بيتاً في صنعاء اليمن يدعو العرب إلى حجة بدل حجهم البيت الحرام والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن وعرض هذا على الملك الحبشي فوافق وسره ذلك ولما بني البيت " الكنيسة " وسماها القُلَّيْس لم يبن مثلها في تاريخها جاء رجل قرشي فتغوط فيها ولطخ جدرانها بالعذرة غَصْباً منه، وذهب فلما رآها أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غيظاً وجهز جيشاً لغزو مكة وهدم الكعبة وكان معه ثلاثة عشر فيلاً ومن بينها فيل يدعى محمود وهو أكبرها وساروا ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه حتى انتهوا إلى قرب مكة وجرت سفارة بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بين هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب ثم هو وشأنه بالكعبة وأمر رجال مكة أن يخلو البلد ويلتحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي والظالم، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر وهو في وسط الوادي سائر وإذا بفرق من الطير فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش حجارة الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحكم وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب وتناثر لحمه فهلكوا وفر أبرهة ولحمه يتناثر فهلك في الطريق وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : {إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين , وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألا فليبلغ الشاهد الغائب } , فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
المعنى التفصيلي للآيات :
قوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } :
يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم مذكراً إياه بفعله في حقبة من قوة أبرهة أبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد ولا تحمل لهؤلاء الأعداء هماً فإِن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة والاعتبار.
وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفاً للعرب ومشهوراً عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
قوله تعالى { ألم يجعل كيدهم في تضليل } :
أي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا وحرمنا في خسارة وضلال فلم يجنوا إلا الخزي والدمار .
ولعله كان بهذا يذكر قريشاً بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته , في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم , كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته ; فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
قوله تعالى { وأرسل عليهم طيراً أبابيل } :
أي جماعات جماعات كانت تشاهد وهي تخرج من البحر يشاهدها رجال مكة المعتصمون بقمم الجبال إذ تمر فوقهم وهي تحمل حجارة من سجيل كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة والعدسة واحدة بمناقره واثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتفتت لحومهم وتتناثر فجعلهم كعصف مأكول أي كزرع دخلته ماشية فأكلت عصفه أي ورقه وكسرت ثائمة وهشمته فكانت آية من آيات الله تعالى .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم:
"وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث:إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء" .
"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح" .
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصة به , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
"وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظاً لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه" .
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل , إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدرك بالبصر , حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو(العصف). . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوف لعلمهم , فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل , فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعاً ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائناً ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات , فأميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة , وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيراً , نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة , تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود . .
وأميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمراً . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة , ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ,فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة , ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآنيفجعلهم كعصف مأكول). . إيحاءً مباشراً قريباً .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصاً في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول:إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ?!
فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة:
{ وأرسل عليهم طيرا أبابيل , ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول }:
الأبابيل: الجماعات .
وسجيل : كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف: الجاف من ورق الشجر .
ووصفه بأنه مأكول: أي فتيت طحين ! حين تأكله الحشرات وتمزقه , أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير . ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصويرلحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
ماترشدنا إليه الآيات :
1 - تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من ظلم كفار قريش .
2 - تذكير قريش بفعل الله عز وجل تخويفاً لهم وترهيباً .
3 - مظاهر قدرة الله تعالى في تدبيره لخلقه وبطشه بأعدائه .
4 - هذا التدخل من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام كي تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم , والتعجيب من موقفهم العنيد !
5 - توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه , والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين , مصونا من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة , لا يهيمن عليها سلطان , ولا يطغى فيها طاغية , ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد , ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن , إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية , ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون , سيحفظه إن شاء الله , ويحفظ مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين ومكر الماكرين !
6 - العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم , والقبائل العربية متفرقة أو مجتمعة ليست ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه . وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش , وتتولى قيادة البشرية , بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ! نسوا نعرة الجنس , وعصبية العنصر , وذكروا أنهم مسلمون . مسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام , وراية الإسلام وحدها .
وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بالبشرية ; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية .
حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه .
وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده , ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده , كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:"الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
عندئذ فقط كان للعرب وجود , وكانت لهم قوة , وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم , وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم , لأن الله قد تركهم حيثما تركوه , ونسيهم مثلما نسوه !
وما العرب بغير الإسلام ?
ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة ?
وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة ?
إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق , والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلاً , إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية , وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة , فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة , ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة , وأرادوا القوة , وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . .
7 – الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام , أي قد رأيتم ذلك وعرفتم موضع منتي عليكم , فلماذا لا تؤمنون .
8 – شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة , تدل على حقارة كفرهم وهوانهم على الله تعالى .
9 – سلط الله تعالى العذاب على أصحاب الفيل ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثاناً , لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب , وهذا تعد على حق العباد , ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى الله تعالى , وهو تعد على حق الله تعالى , وحق العباد مقدم على حق الله تعالى .
المصادر
1 - إعراب القرآن وبيانه محي الدين درويش
2 - إملاء مامن به الرحمن من وجوه الاعراب والقراءات أبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري
3 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للشيخ ابو بكر الجزائري
4 - في ظلال القرآن لسيد قطب
5 - التفسير الواضح
6 - نظم الدرر
7 - الكشاف عن حقائق التنزيل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
8 - الكشف والبيان أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
9 - البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
10 - تفسير البيضاوي البيضاوي
11- تفسيرالخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل) علاء الدين علي البغدادي الشهير بالخازن
12 - تفسير ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ , أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ , وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ ,تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ , فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }
المقدمة
الحمد لله الرحمن ، علم بالقلم ، علم البيان ، علم الإنسان ما لم يعلم ، أنزل خير كتبه عربياً ، على النبي الأمي العربي خير أنبيائه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
أما بعد ، فإن علم التفسير من أشرف العلوم ؛ لأنه يتعلق ببيان كلام رب السموات والأرض ، الذي هو أشرف كلام ، وأعلاه وأجله ، وقد أردت أن أنخرط في سلك هذا العلم ، وأحوز شرف بيان كلام الرب ، وأسأل الله سبحانه أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون من الخير المقدم بين يدي يوم ألقاه ، وأن يكون شافعاً لي يوم العرض الأكبر .
وتأتي أهمية هذا البحث لكثرة فائدته من قبل عامة الناس , عالمهم وجاهلهم , صغيرهم وكبيرهم , ذكرهم وأنثاهم , فالجميع بحاجة إلى معرفة معنى الآيات التي يتلونها .
وقد تطرقت في بحثي هذا إلى تفسير سورة الفيل وبيان معنى الآيات وإعرابها وأحكامها ودلائلها وما يستنبط منها من أحكام وعبر , والإنسياق بالقصة التاريخية الشيقة والتي تظهر لنا مدى حرمة بيت الله الحرام وقدسيته منذ الأزل إلى أن تقوم الساعة , مستنداً في ذلك كله إلى المصادر الأساسية في البحث العلمي المرموق والموثوق .
والله ولي التوفيق إعداد الأستاذ حسام حسن كيوان
التعريف بالسورة :
1) سورة مكية .
2) من المفصل .
3) آياتها 5 , وهي 96 حرفاً ، و 20 كلمة
4) ترتيبها بالمصحف الخامسة بعد المائة .
5) نزلت بعد سورة الكافرون .
6) تبدأ بأسلوب استفهام " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل "
7) لم يذكر لفظ الجلالة في السورة .
8 ) تقع في الجزء (30) ـ الحزب ( 60) ـ الربع ( 8) .
8 ) ومضة : عن عاصم عن زر عن أُبيّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
{من قرأ سورة الفيل عافاه اللّه عزّوجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ }
المفردات الغريبة :
ألم تر كيف فعل ربك : أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل .
بأصحاب الفيل : أي محمود وهي أكبرها ومعه اثنا عشر فيلاً وصاحبها أبرهة.
والْفِيل حيوان من أضخم الحيوانات له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به ، ويجمع على أفيال وفيلة وفيول ومؤنثه فيلة ، والفيل أيضا : الخسيس الثقيل .
ألم يجعل كيدهم : أي تآمرهم في هدم الكعبة .
في تضليل : أي في خسار وهلاك .
أَبابِيلَ : قال ابن خالويه : « أبابيل نعت للطير أي جماعات واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل ، وقال أبو جعفر الرؤاسي : واحدتها إبّيل وقال آخرون : أبابيل لا واحد لها ومثلها أساطير وذهب القوم شماطيط وعبابيد وعباديد كل ذلك لم يسمع واحده وقال آخرون : واحد الأساطير أسطورة
سِجِّيلٍ : طين مطبوخ محرق كالآجر ، وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين .
كعصف مأكول : أي كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها .
وقد ورد خلاف في تفسير العصف على أقوال :
1- ورق الحنطة ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
2- التبن ، عن قتادة من طريق معمر .
3- كزرع مأكول ، عن الضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، وقال : "ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار روثاً" .
4- قشر البر الذي يكون فوق الجنة ، عن ابن عباس من طريق العوفي .
ويظهر من أصل مادة عصف :أن العصف هو ما يعصف ، أي : يحطم من الزرع ، وهذا الوصف يشمل جميع ما قاله السلف ، فتكون أقوالهم أشبه بالأمثلة لشيء من النبات المعصوف والله أعلم .
إعراب الآيات وبيان أوجه البلاغة :
كيف : اسم استفهام في محل نصب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني قال وعندي بأنها تأتي في هذا النوع مفعولاً مطلقاً أيضاً وإن منه : كيف فعل ربك إذ المعنى « أي فعل فعل ربك ولا يتجه فيه أن يكون حالاً من الفاعل » أي وهو ربك لأنه يقتضي أن الفاعل وهو الرب متّصف بالكيفيات والأحوال لأن المعنى فعل ربك حال كونه على أي حالة وكيفية واتصافه بها محال والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعولي تر لأن الرؤية قلبية تفيد العلم الضروري المساوي في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان ،
بأصحاب الفيل : متعلقان بفعل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو يعود على اللّه تعالى وكيدهم مفعول به أول وفي تضليل في موضع المفعول الثاني
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ : الواو حرف عطف وأرسل عطف على ألم نجعل لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعليهم متعلقان بأرسل وطيراً مفعول به وأبابيل نعت لطيراً لأنه اسم جمع
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ : الجملة نعت ثان لطيراً وترميهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبحجارة متعلقان بترميهم ومن سجّيل نعت لحجارة
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ : الفاء عاطفة وجعلهم فعل ماض وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وكعصف في موضع المفعول الثاني ومأكول نعت لعصف .
المعنى الإجمالي للآيات :
تحكي هذه السورة قصة أبرهة الحبشي الذي جاء لهدم الكعبة في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وتذكر ما حصل لهم من العقاب .
قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل*ألم يجعل كيدهم في تضليل} ؛ أي : ألم تعلم بما صنعه الله بأبرهة وقومه الذين غزو مكة بجيش فيه أفيال ، وأرادوا أن يهدموا الكعبة ؟ ، لقد جعل الله سعيهم وتدبيرهم في صرف الناس عن الكعبة ومحاولة هدمها عملا ضائعاً لا فائدة فيه .
قوله{وأرسل عليهم طيرا أبابيل*ترميهم بحجارة من سجيل*فجعلهم كعصف مأكول} ؛ أي : وألم تعلم بما عاقبهم به من بعث طيور من السماء جاءت جماعات كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضاً ، تحمل حصى صغيرة من طين ، تلقيه على أصحاب الفيل ، ، فتقضي عليهم ، حتى صاروا كبقايا الزرع المأكول الذي تحول بعد الخضرة والنصرة ، إلى أن صار ملقى على الأرض يداس بالأقدام ؟ .
قصة الآيات وسبب نزولها :
هذه الآيات تضمنت الحديث عن حادث جلل وقع أمام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وخلاصته أن أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحبشة قد رأى أن يبني بيتاً في صنعاء اليمن يدعو العرب إلى حجة بدل حجهم البيت الحرام والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن وعرض هذا على الملك الحبشي فوافق وسره ذلك ولما بني البيت " الكنيسة " وسماها القُلَّيْس لم يبن مثلها في تاريخها جاء رجل قرشي فتغوط فيها ولطخ جدرانها بالعذرة غَصْباً منه، وذهب فلما رآها أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غيظاً وجهز جيشاً لغزو مكة وهدم الكعبة وكان معه ثلاثة عشر فيلاً ومن بينها فيل يدعى محمود وهو أكبرها وساروا ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه حتى انتهوا إلى قرب مكة وجرت سفارة بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بين هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب ثم هو وشأنه بالكعبة وأمر رجال مكة أن يخلو البلد ويلتحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي والظالم، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر وهو في وسط الوادي سائر وإذا بفرق من الطير فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش حجارة الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحكم وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب وتناثر لحمه فهلكوا وفر أبرهة ولحمه يتناثر فهلك في الطريق وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : {إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين , وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألا فليبلغ الشاهد الغائب } , فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
المعنى التفصيلي للآيات :
قوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } :
يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم مذكراً إياه بفعله في حقبة من قوة أبرهة أبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد ولا تحمل لهؤلاء الأعداء هماً فإِن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة والاعتبار.
وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفاً للعرب ومشهوراً عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
قوله تعالى { ألم يجعل كيدهم في تضليل } :
أي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا وحرمنا في خسارة وضلال فلم يجنوا إلا الخزي والدمار .
ولعله كان بهذا يذكر قريشاً بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته , في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم , كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته ; فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
قوله تعالى { وأرسل عليهم طيراً أبابيل } :
أي جماعات جماعات كانت تشاهد وهي تخرج من البحر يشاهدها رجال مكة المعتصمون بقمم الجبال إذ تمر فوقهم وهي تحمل حجارة من سجيل كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة والعدسة واحدة بمناقره واثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتفتت لحومهم وتتناثر فجعلهم كعصف مأكول أي كزرع دخلته ماشية فأكلت عصفه أي ورقه وكسرت ثائمة وهشمته فكانت آية من آيات الله تعالى .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم:
"وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث:إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء" .
"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح" .
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصة به , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
"وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظاً لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه" .
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل , إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدرك بالبصر , حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو(العصف). . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوف لعلمهم , فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل , فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعاً ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائناً ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات , فأميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة , وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيراً , نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة , تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود . .
وأميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمراً . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة , ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ,فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة , ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآنيفجعلهم كعصف مأكول). . إيحاءً مباشراً قريباً .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصاً في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول:إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ?!
فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة:
{ وأرسل عليهم طيرا أبابيل , ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول }:
الأبابيل: الجماعات .
وسجيل : كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف: الجاف من ورق الشجر .
ووصفه بأنه مأكول: أي فتيت طحين ! حين تأكله الحشرات وتمزقه , أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير . ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصويرلحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
ماترشدنا إليه الآيات :
1 - تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من ظلم كفار قريش .
2 - تذكير قريش بفعل الله عز وجل تخويفاً لهم وترهيباً .
3 - مظاهر قدرة الله تعالى في تدبيره لخلقه وبطشه بأعدائه .
4 - هذا التدخل من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام كي تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم , والتعجيب من موقفهم العنيد !
5 - توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه , والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين , مصونا من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة , لا يهيمن عليها سلطان , ولا يطغى فيها طاغية , ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد , ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن , إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية , ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون , سيحفظه إن شاء الله , ويحفظ مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين ومكر الماكرين !
6 - العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم , والقبائل العربية متفرقة أو مجتمعة ليست ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه . وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش , وتتولى قيادة البشرية , بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ! نسوا نعرة الجنس , وعصبية العنصر , وذكروا أنهم مسلمون . مسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام , وراية الإسلام وحدها .
وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بالبشرية ; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية .
حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه .
وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده , ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده , كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:"الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
عندئذ فقط كان للعرب وجود , وكانت لهم قوة , وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم , وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم , لأن الله قد تركهم حيثما تركوه , ونسيهم مثلما نسوه !
وما العرب بغير الإسلام ?
ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة ?
وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة ?
إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق , والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلاً , إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية , وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة , فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة , ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة , وأرادوا القوة , وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . .
7 – الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام , أي قد رأيتم ذلك وعرفتم موضع منتي عليكم , فلماذا لا تؤمنون .
8 – شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة , تدل على حقارة كفرهم وهوانهم على الله تعالى .
9 – سلط الله تعالى العذاب على أصحاب الفيل ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثاناً , لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب , وهذا تعد على حق العباد , ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى الله تعالى , وهو تعد على حق الله تعالى , وحق العباد مقدم على حق الله تعالى .
المصادر
1 - إعراب القرآن وبيانه محي الدين درويش
2 - إملاء مامن به الرحمن من وجوه الاعراب والقراءات أبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري
3 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للشيخ ابو بكر الجزائري
4 - في ظلال القرآن لسيد قطب
5 - التفسير الواضح
6 - نظم الدرر
7 - الكشاف عن حقائق التنزيل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
8 - الكشف والبيان أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
9 - البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
10 - تفسير البيضاوي البيضاوي
11- تفسيرالخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل) علاء الدين علي البغدادي الشهير بالخازن
12 - تفسير ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
رد: تفسير سورة الفيل بمنظور واقعي
جــزاك الله خيراخي الكريم
ويعطيك الف عااافيه
جعلها الله في ميزان حسناتك يااارب
ويعطيك الف عااافيه
جعلها الله في ميزان حسناتك يااارب
نور الامل- المشرف العام
- عدد المساهمات : 321
العمر : 33
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاخلاص
» تفسير الايات من 1-9 من سورة البقرة
» تفسير سورة الحجرات الآية 13يَأَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَكم مِّن ذَكَر وَ أُنثى وَ جَعَلْنَكمْ شعُوباً وَ قَبَائلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)
» تفسير الايات من 1-9 من سورة البقرة
» تفسير سورة الحجرات الآية 13يَأَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَكم مِّن ذَكَر وَ أُنثى وَ جَعَلْنَكمْ شعُوباً وَ قَبَائلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء مارس 22, 2016 11:40 pm من طرف أبو مصعب بربروس
» لتكن حياتك مرتبطة بذكر الله
الأحد مارس 20, 2016 10:39 am من طرف أ . حسام كيوان
» القيم المستنبطة من سورة الاسراء
الإثنين ديسمبر 08, 2014 6:23 pm من طرف mr.gevara
» ملخص مادة الأحوال الشخصية لجامعة القدس المفتوجة برنامج التنمية
الجمعة أكتوبر 10, 2014 7:36 pm من طرف احمد الزعتر
» رسالة الاساذ زياد خربوطلي
الخميس سبتمبر 25, 2014 12:08 am من طرف اسعد الفرا
» حقيقة الأسير وشروطه
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الحرية في الإسلام
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الحسبة بين النظرية والتطبيق
الأحد مايو 25, 2014 9:07 pm من طرف طالب
» الوسطية في الإسلام
الأحد مايو 25, 2014 9:05 pm من طرف طالب