منتدى الفقه الإسلامي وأصوله
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اسلامية الصراع حول القدس وفلسطين

اذهب الى الأسفل

اسلامية الصراع حول القدس وفلسطين  Empty اسلامية الصراع حول القدس وفلسطين

مُساهمة من طرف د طلال النجار الأحد مارس 20, 2011 1:24 pm

إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين (1)
محمد عمارة- كاتب مصري

في البداية لابد من تحديد المخاطب بهذه الصفحات التي تتحدث عن "الطبيعة الإسلامية للصراع حول مدينة القدس" تحديداً... وحول فلسطين بوجه عام.
فالخطاب حول إسلامية القدس... وإسلامية الصراع عليها بيننا وبين الصهيونية، وكيانها ومسانديها، ليس توجهاً إلى "الذات" ذات الذين يؤمنون بإسلامية القدس، وإسلامية الصراع حولها. وإلا كان الأمر تحصيلاً للحاصل، لا يستحق عناء الخطاب.
وإنما الخطاب هنا موجه - بالحوار - إلى الذين ينكرون إسلامية القدس، وإسلامية قضيتها ومشكلتها، وإسلامية الصراع حولها، وإسلامية آليات تحريرها من الأسر "الصهيوني- الإمبريالي"... أولئك الذين يعترضون على أسلمة هذا الصراع القائم حولها، ويريدون إما الوقوف بطبيعة هذا الصراع عند "الدائرة الوطنية الفلسطينية" باعتبار القدس مجرد أرض فلسطينية، وعاصمة للدولة الفلسطينية. أو الوقوف بتوصيف هذا الصراع عند "الدائرة القومية العربية" باعتبار المشروع الصهيوني مشروعاً قومياً يهودياً، يقوم التناقض بينه وبين المشروع القومي العربي... ومن ثم، فالقدس قضية عربية بالمعنى القومي والصراع حولها قومي عربي فقط.
أي إن الخطاب -في هذه الصفحات- موجه إلى الذين يريدون "علمنة" هذا الصراع، وتجريده من الطبيعة الإسلامية - العقيدية والفكرية والحضارية - ويحذرون من "أسلميته" التي يرون فيها مخاطر و محاذير تضر بموقفنا وتحالفنا في هذا الصراع. لذلك، وجب البدء بتحديد "طبيعة المشكلة " التي تحدد - بدورها - طبيعة الصراع، ومن ثم طبيعة آليات الحل، انتهاء بالمقاصد المبتغاة من تحرير هذه المدينة، التي تمثل البؤرة الأكثر تعقيداً في هذا الصراع.
إن مشكلتنا لم ولن تكون مع "اليهودية" التي جاء بها موسى -عليه السلام- فنحن المسلمين نؤمن باليهودية رسالة سماوية من رسالات السماء، بل لا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا آمن باليهودية كمعلم من معالم طريق الدين الإلهي الواحد، وشريعة متميزة لـ"بني إسرائيل".
ومشكلتنا ليست مع "توراة" موسى -عليه السلام- فقرآننا الكريم يعلمنا أنها تنزيل إلهي، فيها هدي ونور ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) المائدة 44. ومشكلتنا ليست مع "الإنسان اليهودي" فحضارتنا الإسلامية هي التي جعلت من تعددية الشرائع والملل والشعوب والقبائل والأمم والأجناس والألوان والألسنة واللغات والقوميات والمناهج والثقافات والحضارات سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل... ووضعت هذه السنة الإلهية في الممارسة والتطبيق قروناً طوالاً، تمتع فيها اليهود بكنف الحضارة الإسلامية وأحضانها كما لم يحدث لهم في أي وطن من الأوطان أو حضارة من الحضارات فأثروا وتأثروا وفتحت أمامهم كل ميادين التفاعل الحضاري، حتى غدت فلسفتهم فرعاً من الفلسفة الإسلامية، ولاهوتهم غدا متأثراً بعلم الكلام الإسلامي، وعروض شعرهم متأثراً بعروض الشعر العربي، وأجرومية عبريتهم متأثرة بأجرومية العربية فاستظلوا، لأكثر من عشرة قرون، بمظلة التعددية، في إطار الأمة الواحدة، و حراسة المبدأ الإسلامي "لهم مالنا وعليهم ما علينا"... الذي لم تصل إلى مستوى سموه حضارة من الحضارات الأخرى حتى الآن.

مشكلتنا ليست مع اليهودية الدين... ولا مع التوراة وشريعتها... ولا مع اليهود... وإنما مشكلتنا هي مع "الصورة التلمودية اليهودية" تلك التي نسخت ومسحت توحيد اليهودية، فحولته إلى وثنية أحلت "يهوه" محل الله، ثم جعلته إلها لـ"بني إسرائيل" وحدهم، دون الشعوب الأخرى التي لها آلهتها المغايرة والمتعددة.

ومشكلتنا هي مع "اليهودية - الصهيونية" التي جردت اليهودية من "عموم الدين" وجعلتها ذروة "العنصرية" عندما عرفت اليهودي بأنه: هو المولود من أم يهودية... وليس المتدين حقاً باليهودية الحقة... فأصبح المولود من أم يهودية - بحكم وحق "الولادة - البيولوجية" - "من شعب الله المختار"، حتى لو كان ملحداً، أو ابن زنا...

ومشكلتنا - كذلك - هي مع "المشروع الصهيوني" الذي تبنى - أو استثمر - عنصرية "اليهودية التلمودية" ووظف إمكانات الجماعات اليهودية في الشراكة التي دعت إليها الإمبريالية الغربية في مرحلة زحفها الاستعماري الحديث على وطن العروبة وعالم الإسلام... لأن هذا المشروع الصهيوني، ذو طبيعة استيطانية، تتناقض وتنفي الوجود الوطني والعربي والإسلامي في فلسطين وما حولها، وذو وظيفة إمبريالية غربية تجعل من الكيان الصهيوني جسماً غربياً وغريباً مزروعاً بالقسر في قلب وطن أمتنا يقطع وحدة أرضها، ويجهض محاولات نهوضها ويتصدى بالعداء لصيغته سواء أكانت قومية تلك الصيغة أم إسلامية.

فنحن إزاء "مشروع استيطاني" غربي النشأة والطبيعة والمقاصد تبلور -أول ما تبلور- في "اللاهوت البروتستانتي" الغربي انطلاقاً من الفكر الأسطوري حول "رؤيا يوحنا" وعودة المسيح -عليه السلام- ليحكم الأرض ألف سنة سعيدة، بعد معركة "هرمجدون تجدون" الذي جعل من جمع اليهود و حشرهم في فلسطين، وتهديم القدس وإقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى أي جعل من تحقيق العلو والهيمنة الصهيونية ديناً يتدين به البروتستانت في الغرب... ثم حدث التبشير بهذا المشروع الديني بين الجماعات اليهودية... فتلقفته - الصهيونية كحركة قومية عنصرية - والإمبريالية الغربية إبان زحفها على الشرق الإسلامي، وبحثها عن أقليات توظفها - كمواطئ أقدام - في المشرع الاستعماري... فاجتمعت في هذا المشروع الصهيوني عناصر متعددة... ومركبة منها:

* البعد الديني في لاهوت النصرانية الغربية... وهو الذي بدأ بروتستانتياً، ثم مارس الابتزاز والتأثير على الكنيسة الكاثوليكية الغربية، حتى جعلها تشرع في "تهويد نصرانيتها" بدلاً من تحقيق الاعتراف اليهودي بالمسيحية... فهي -الآن- تسعى لتجعل) يهوه إلههاً، وتتحدث عن "دمج المسيح في "إسرائيل" "وتعدّل، ليس فقط "الفكر المسيحي" وإنما في "الأناجيل والصلوات" لتصل إلى طلب "الغفران" من اليهود، بعد أن ظلت قروناً طويلة تبيع لأتباعها صكوك الغفران" بل إن هذا البعد الديني -في الفكر الغربي- للصراع حول القدس، لم يكن وقفاً على لاهوت الكنائس الغربية وإنما تعداه إلى الأيديولوجيات التي حركت جيوش الحكومات الغربية "العلمانية".
- فمثال السياسي الإنجليزي "سيكس" الذي عقد مع نظيره الفرنسي "بيكو" المعاهدة السرية الشهيرة التي مزقت أوصال المشرق العربي عام 1916م -تمثال هذا السياسي- في قريته "سلديرة، في مقاطعة "يورك شاير" مكتوب عليه: "ابتهجي يا قدس".
- فتمزيق أوصال الوطن العربي - من قبل الاستعمار "العلماني" ، هدفه: القدس...
- والجنرال الإنجليزي "اللنبي" عندما يدخل سنة 1917م على رأس جيشه الاستعماري - يتقمص صورة بابوات الحروب الصليبية، ويعبر عن أحلام الملك الصليبي "ريتشارد قلب الأسد" فيقول "اللبني" اليوم انتهت الحروب الصليبية! يومئذ نشرت مجلة "بنش" Punch الإنجليزية رسماً "كاريكاتورياً" لريتشارد قلب الأسد، وهو يقول "أخيراً تحقق حلمي" ! وذلك تحت عنوان: "آخر حملة صليبية"...

أما الجنرال الفرنسي "جورو" - الذي يرفع راية العلمانية الفرنسية المتطرفة - فهو الذي يذهب عند دخوله دمشق 1920م - إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ليركله بحذائه، ويقول "ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين"!

فالبعد الديني لهذا الصراع -حول القدس- قائم وحي ومتأجج في الفكر الغربي -اللاهوتي منه والعلماني- التاريخي منه والحديث... والمعاصر لنا حتى هذه الأيام.

كذلك - نواجه - في الطبيعة المركبة لهذا المشروع الصهيوني:

* البعد الإمبريالي الغربي، الذي يوظف الصهيونية في خدمة هيمنته -الاستعمارية والحضارية- على وطن العروبة وعالم الإسلام.
* البعد العنصري اليهودي الذي تغذيه القومية الصهيونية التي استثمرت وتستثمر كل ألوان التعصب والأحقاد التي طفحت بها أسفار "التلمود" ضد الأغيار" ! وهي التي كشف القرآن الكريم حقائقها عندما قال: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) آل عمران 75-.

فالمشكلة التي نواجهها طابعها ديني لاهوتي... بدأ في البروتستانتية الغربية وها هو يزحف ليضم لها الكاثوليكية الغربية... لتتلقفه الحركة الصهيونية، التي دعمته "باليهودية التلمودية" لتوظف الجماعات اليهودية - بالتلمود - في خدمة هذه الشراكة في المشروع الإمبريالي الغربي، ضد وطن العروبة وعالم الإسلام.

(2)

بسبب الطبيعة المركبة -لهذه المشكلة، وهذا الصراع- مشكلة الصراع حول القدس وفلسطين ـ عمل ويعمل في خدمة الأعداء: لاهوتيون... وملاحدة: ومتدينون وعلمانيون... ووضعيون ودهريون ومن ينتظرون عودة المسيح... وأيضاً أعداء اليهود ما يسمى بالسامية، يريدون تهجيرهم من المجتمعات الغربية إلى أرض فلسطين، لتوطينهم في هذا المشروع الاستعماري!.

وهذه الطبيعة المركبة للمشروع الصهيوني، هي التي جمعت بين "بونابرت" (1769 - 1821 م). وهو وضعي دهري ـ عندما ارتاد ميدان الدعوة إلى هذه الشراكة " الإمبريالية - اليهودية"، بندائه إلى يهود العالم كي يساعدوه على بناء إمبراطوريته الاستعمارية في الشرق لقاء "إعادتهم" إلى أرض فلسطين!... فكتب - وهو يحاصر مدينة "عكا" سنة 1799م:
"أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد... إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل... يا ورثة فلسطين الشرعيين: إن الأمة الفرنسية... تدعوكم إلى إرثكم، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء.

جمعت هذه الطبيعة المركبة لهذا المشروع، بين "بونابرت" –الدهري- وبين الكنائس البروتستانتية الغربية، التي رأت في حشر اليهود إلى فلسطين، وتهويد القدس، وإقامة الهيكل على أنقاض الأقصى، وإبادة العرب والمسلمين في معركة "هرمجدون"، السبيل إلى عودة المسيح ليحكم العالم ألف سنة سعيدة. وبين الكاثوليكية، التي عقدت مع الكيان الصهيوني معاهدة الاعتراف بالأمر الواقع - أي اغتصاب فلسطين والقدس - في 31/12/1993 م ، وتحدثت في مقدمتها عن "العلاقة الفريدة بين الكاثوليكية والشعب اليهودي".

حتى البابا يوحنا بولس الثاني تحدث عن القدس - بمناسبة "سنة الفداء" في 20/4/1984م - فقال: "منذ عهد داود الذي جعل أورشليم عاصمة لمملكته، ومن بعده ابنه سليمان، الذي أقام الهيكل، ظلت أورشليم موضع الحب العميق في وجدان اليهود، الذين لم ينسوا ذكرها على مر الأيام، وظلت قلوبهم عالقة بها كل يوم، وهم يرون المدينة شعاراً لوطنهم".

وبين الكونجرس الأمريكي، الذي قرر في -1995م- نقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى "القدس" ... وردد، في مقدمة هذا القرار المعنى نفسه الذي تحدث عنه بابا الفاتيكان "إن القدس هي الوطن الروحي لليهودية". مع أن القدس لم تعرف في تاريخها -ولم يعرفها- بنو اليهودية... ولا نزلت فيها توراتها... وداود وسليمان - اللذان عاشا فيها لمحة من التاريخ - هما، في عرف اليهودية، ملكان، وليسا رسولين ولا نبيين لليهودية...
فمن أين... ومتى... وكيف كانت أو تكون "الوطن الروحي لليهودية"...

لقد أضفي الغرب الاستعماري على هذا المشروع الصهيوني طابعاً دينياً... وجعله ضمن مكونات البعد الديني في الحضارة الغربية... وعلى هذا الدرب سارت الحركة القومية الصهيونية، حتى الفصائل العلمانية والمادية منها، فتحدث الجميع عن أسطورة وعد الله بأرض فلسطين لنسل - إبراهيم الخليل - عليه السلام... ثم احتكروا - بالاغتصاب - ميراث إبراهيم، دون الغالبية من نسله - العرب والمسلمين - ... وتحدثوا جميعاً - متدينين وعلمانيين - عن أرض التوراة، والوطن التوراتي... ورفضوا كل البدائل التي عرضت عليهم لإقامة وطن تُحَلُّ فيه "المشكلة اليهودية" - في أوغندا... أو كينيا... أو كندا... أو أستراليا... أو حتى في سيناء.

بل إن الصهاينة العلمانيين، حتى هذه اللحظة، يطبقون العقوبات التوراتية ضد المجاهدين من أبناء فلسطين: - الإبادة... وإهلاك الحرث والنسل... ومنافذ المنازل... وهدم البيوت.

وكما وضح البعد الديني والطبيعة الدينية للمشروع الصهيوني - الذي نواجهه في القدس منذ سنوات - فإن المقاصد الدينية لهذا المشروع معلنة هي الأخرى، وليست حديث مؤامرة، ولا أثراً لأشباح "المنهاج التآمري" على بعض العقول... فالوظيفة الصهيونية تصل آفاتها واختصاصاتها إلى الإسلام ويقظته، والأمة الإسلامية وعالمها، ولا تقف عند حدود الوطن الفلسطيني، ولا عرب ما بين الخليج والمحيط...

فإيران - وهي ليست عربية - فليست خارج المخطط الصهيوني ... إذ عندما كان يحكمها الشاه كانت ركيزة للصهيونية... وهي في ظل النظام الإسلامي في مقدمة أعداء الصهيونية...

وتركيا وهي ليست عربية - يعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني إبان الانتخابات التي تقدم فيها حزب "الرفاه" ـ فيقول: "نحن منزعجون لتقدم حزب "الرفاه"، نحن حريصون على بقاء تركيا علمانية".

ومن على منابر البرلمانات الأوربية، يعلن رئيس دولة الكيان الصهيوني: "إن "إسرائيل" تصدت في الماضي لخطر الشيوعية والاتحاد السوفيتي، وإن لها دوراً في المستقبل، بعد زوال الاتحاد السوفيتي، وهو التصدي لخطر الأصولية الإسلامية على نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها... وإن العالم يجهل الخطر "الأكبر الذي يهدده، وهو الأصولية الإسلامية".
بل إن المشروعات الصهيونية لتفتيت حتى الكيانات القطرية لأمتنا - منذ عقد الأربعينيات من القرن العشرين - لا تقف عند العمل على تفتيت الوطن العربي وحده، و إنما ترسم وتسعى لتفتيت سائر الدول الإسلامية، من باكستان حتى المغرب...

فخطة المستشرق الصهيوني "برنارد لويس" تتحدث عن ضرورة تفتيت العالم الإسلامي بأسره إلى ذرات طائفية وعرقية و"اثنية" في باكستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر والسودان والجزائر والمغرب... الخ وذلك - كما يقول -: "حتى يكون كل كيان من هذه الكيانات أضعف من "إسرائيل"، فتضمن تفوقها لمدة نصف قرن على الأقل"...

والآفاق نفسها، والاستراتيجية ذاتها يتحدث عنها "آرييل شارون" في محاضرته - 18 ديسمبر عام 1981م عندما يرى العالم الإسلامي - وليس العربي فقط - هو المجال الحيوي لـ"إسرائيل"، الذي لابد من أن تطاله ذراعها الطويلة... فيقول: "إن "إسرائيل" تصل بمجالها الحيوي إلى أطراف الاتحاد السوفيتي شمالاً، والصين شرقاً وإفريقيا الوسطى جنوباً، والمغرب العربي غرباً - (أي العالم الإسلامي كله) - فهذا المجال عبارة عن مجموعات قومية واثنية ومذهبية متناحرة... وفي العام التالي لمحاضرة "شارون" - 14 فبراير سنة 1982 م - تنشر المنظمة الصهيونية - في مجلتها "كيفو نيم" kivunim " ذات المخطط لتفتيت كل العالم الإسلامي، تحت عنوان: "استراتيجية "إسرائيل" في الثمانينيات"... وفيها نقرأ:

"إن صورة الوضع (القومية - الاثنية - الطائفية) من المغرب حتى الهند، ومن الصومال حتى تركيا، تشهد على انعدام الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة المحيطة بنا... إن دولاً مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منهما لن تبقى على صورتها الحالية، بل ستقتفي أثر مصر في انهيارها وتفتتها، فمتى تفتت مصر تفتت الباقون... إن رؤية دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر، إلى جانب عدد من الدول ذات سلطة أقلية - مصرية، لا سلطة مركزية كما هو الوضع الآن، هي مفتاح هذا التطور التاريخي... وإن تفتت لبنان بصورة مطلقة إلى خمس مقاطعات إقليمية هو سابقة للعالم العربي بأسره، بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية... وإن تفتت سوريا والعراق لاحقاً إلى مناطق ذات خصوصية اثنية ودينية، على غرار لبنان، هو هدف من الدرجة الأولى بالنسبة لإسرائيل... وسوف تتفتت سوريا... بحيث تقوم على ساحلها دولة علوية - شيعية، وفي منطقة حلب دولة سنية، وفي منطقة دمشق دولة سنية أخرى معادية للدولة الشمالية، والدروز ربما سيشكلون دولة أيضاً في الجولان...

وطبعاً في حوران وشمال الأردن وستكون هذه ضمانة الأمن والسلام في المنطقة بأسرها في المدى الطويل... وإن تفتيت العراق هو أكثر أهمية من تفتيت سوريا... فالعراق أقوى من سوريا، وقوته تشكل في المدى القصير خطراً على "إسرائيل" أكثر من أي خطر آخر... وفيه سوف يكون التقسيم الإقليمي والطائفي متاحاً... فتقوم ثلاث دول (أو أكثر) حول المدن العراقية الرئيسة: البصرة، وبغداد، والموصل، وتنفصل مناطق شيعية في الجنوب عن الشمال السني والكردي بأكثريته.
وكذلك فإن الأردن هدف استراتيجي في المدى القصير... وليس هناك أي إمكان بأن يبقى الأردن قائماً على صورته وبنيته الحاليتين في المدى الطويل، وينبغي أن تؤدي سياسة "إسرائيل" - حرباً أو سلماً - إلى تصفية الأردن بنطاقه الحالي... لتصفية مشكلة المناطق الآهلة بالعرب غرب النهر، حرباً أو سلماً...

"تلك سطور من مخطط" استراتيجية "إسرائيل" في الثمانينيات"... وهو المخطط الذي يعلق الصهاينة على تنفيذه تحقيق الأمن الحقيقي للكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

(3)

لقد أعلنت المنظمة الصهيونية -في ثمانينيات القرن العشرين- أن تفكيك وطن العروبة وعالم الإسلام هو الشرط الضروري لتحقيق أمن "إسرائيل"... وجاء في وثيقة استراتيجيتها - بالحرف الواحد:

"فإنه - في العصر النووي - لا يمكن بقاء "إسرائيل" إلا بمثل هذا التفكيك، ويجب من الآن فصاعداً بعثرة السكان وهذا دافع استراتيجي، فإذا لم يحدث ذلك، فليس باستطاعتنا البقاء مهما كانت الحدود! وهذا الهدف - الذي عبرت عنه استراتيجية الثمانينيات - هو الذي عبر عنه "برنارد لويس" في الأربعينيات عندما قال: "حتى يكون كل كيان من هذه الكيانات أضعف من "إسرائيل" فتضمن تفوقها لمدة نصف قرن على الأقل"!

وحول المخطط ذاته لتفتيت العالم الإسلامي عقدت ندوة متخصصة - في التسعينيات- في 20 مايو 1992م دعا إليها "مركز بارايلان للأبحاث الاستراتيجية "تابع "لجامعة بارايلان" الإسرائيلية شارك فيها "مركز الأبحاث السياسية" التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية - و"مركز ديان" التابع لجامعة تل أبيب - ... وغطت أبحاث هذه الندوة الموقف الإسرائيلي من الأقليات القومية والدينية في العالم الإسلامي لتخلص إلى "أن هذه الأقليات هي شريكة لـ"إسرائيل" في المصير، ولابد من أن تقف مع "إسرائيل" في مواجهة ضغط الإسلام والقومية العربية... ذلك أن أية طائفة أو جماعة تواجه ضغط الإسلام والقومية العربية (العدو الأول للشعب اليهودي) أو تبدي استعداداً لمحاربتها أو مقاومتها، هي حليف وقوة لنا لتنفيذ سياسة الاستيطان والدولة التي مازالت في مرحلة التكوين"! فالدولة التوراتية ترى الإسلام والقومية العربية العدو الأول للشعب اليهودي... وترى أمنها مشروطاً ومرهوناً بتفتيت دار الإسلام وعالم القرآن.

يقرر ذلك "برنارد لويس" في الأربعينيات... و"أرييل شارون والمنظمة الصهيونية في الثمانينيات. والمراكز الاستراتيجية المتخصصة - في التسعينيات... أي حتى بعد الدخول مع العرب في "السلام" والتسويات و"التطبيع"!. -

فالهدف بعبارة "برنارد لويس" هو: "تحويل العالم الإسلامي إلى مجتمعات فسيفسائية"، أو مجتمعات الموزاييك Mosaic Society ... وهو ما بدأ تنفيذه "بن جوريون" و"موسى شاريت" و"موشي ديان" - في لبنان - منذ عقد الخمسينيات - عندما أعلن "موسى شاريت " - في مذكراته "أن تحريك الأقليات هو عمل إيجابي ينتج آثاراً تدميرية على المجتمع المستقر... ويذكي النار في مشاعر الأقليات المسيحية في المنطقة، ويوجهها نحو المطالبة بالاستقلال"!. -

فالمواجهة الصهيونية - بسبب البعد الديني لمشروعها... وبسبب الأفق الكوني لشراكتها مع الامبريالية الغربية - لا تقف عند الوطنية الفلسطينية، ولا حتى القومية العربية، وإنما ترى عالم الإسلام "مجالها الحيوي" الذي تمتد إليه ذراعها الطويلة.! " فالكانتونات" التي تريدها للشعب الفلسطيني، والوطن الفلسطيني هي ما تريده لكل ديار الإسلام.
مجتمعات الموزاييك

فإذا كانت المواجهة مع الإسلام وأمته وعالمه وحضارته... فهل يجوز لعاقل أن يسقط البعد الإسلامي والإمكانات الإسلامية من حسابنا وعدتنا في هذا الصراع؟

هل نواجه هذا الحلف "العنصري - التوراتي - اللاهوتي الغربي - الإمبريالي" بإمكانات الوطنية الفلسطينية وملايينها الثمانية فقط؟ أم بالدائرة القومية العربية وحدها، وهي أقلية إسلامية - لا تتعدى ملايينها الـ235 مليوناً؟-. أم ندعم هاتين الدائرتين بالمحيط الإسلامي، وفيه - عدا الإمكانات المادية والعمق الاستراتيجي أمة يزيد تعدادها على المليار وثلث المليار- 1.384.800 مليوناً (أي 24 % من سكان العالم) ؟.

وإذا كنا نسعى -فلسطينيين وعرباً- إلى كسب وحشد وتوظيف دوائر: "عدم الانحياز"... و"إفريقيا"... بل كل الإمكانات في الدائرة الإنسانية فهل نسقط الدائرة الإسلامية من حساباتنا في هذا الصراع ؟ وإذا كان العدو قد أعطى لعقيدته القتالية -في هذا الصراع - بعداً دينياً... فهل نسقط نحن طاقات العقيدة الإسلامية - في الفداء... والجهاد... والاستشهاد من عقيدتنا القتالية والصراعية؟.

فنتجاهل - مثلاً - معنى ورود الرباط القرآني الذي جمع بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، جاعلاً من هذا الرباط آية من آيات الله، وعقيدة من عقائد الإيمان - وليس مجرد امتداد للأرض والتراب-؟ (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)- الإسراء.

إن هذا الرباط الإلهي لا يجعل المسجد الأقصى - وما حوله في القدس وفلسطين - مجرد أرض... ولا حتى مجرد مسجد... بل هو شرط من شروط وحدة وكمال واكتمال الدين الإلهي الواحد، عندما ترتبط قبلة أمة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام - التي رفع قواعدها إبراهيم - أبو الأنبياء - عليه السلام - بقبلة النبوات السابقة ومواريث الرسالات التي خلت... فتنتظم كل مواريث النبوات بهذا الرباط في عقد إيماني واحد... وهذا هو المعنى الذي جعل القدس... في العقيدة الإسلامية - وليس في الوطنية أو القومية - أولى القبلتين، وثالث الحرمين... وإليها مع الحرم المكي والحرم المدني تشد الرحال دون كل بقاع الكوكب الذي عليه نعيش إنها حرم... وليست مجرد أرض متنازع عليها، أو تتفاوض فيه وطن أو قومية... ولذلك، هي وقف على الأمة بالمعنى العقدي القومي فقط - لأن المالك الحقيقي للحرم هو خالقه... والأمة فيه بمنزلة الخليقة والنائب والوكيل المؤتمن على أمانة الله التي أودعها لدى الأمة الراشد الثاني عمر بن الخطاب..

ولهذه... الحقيقة ولهذا المعنى لم يتحدث صلاح الدين الأيوبي ( 532- 589 هـ 1137- 1193م) عن القدس بأنها مجرد أرض مغتصبة لأنها في عقيدته القتالية كانت حرماً مقدساً... "من القدس عرج نبينا إلى السماء وفي القدس تجتمع الملائكة" وحقوقنا فيها إسلامية وليست فقط وطنية أو قومية.

لكن... ماذا تعني "إسلامية هذا الصراع"؟..
- هل يعنى إسقاط - أو حتى تهميش - البعد الوطني الفلسطيني، وإهمال طاقاته وإمكانياته في هذا الصراع؟
- أو الاستغناء بالبعد الإسلامي عن البعد القومي العربي لهذا الصراع-؟

إن هذا التصور غير وارد، بل لا يخطر لعاقل ببال... فإسلامية هذا الصراع هي "واقع" يضيف الإمكانات الإسلامية للإمكانات الوطنية الفلسطينية والطاقات القومية العربية... فهو يرفدها، ولا ينتقص منها، ويدعمها، ولا يضعفها، لأن البعد الإسلامي، والدائرة الإسلامية هي واحدة من دوائر الانتماء لإنساننا، تضم وتحتضن وتدعم وتلي الدائرة الوطنية والدائرة القومية...

ثم... هل تعني إسلامية هذا الصراع تحويله إلى "صراع ديني" نستبدله بالأبعاد الوطنية والقومية للقضية؟... أو نستعدي به أهل الديانات الأخرى؟

كلا... ذلك أن الإسلام ينكر ويستنكر الصراعات الدينية في أي ميدان من الميادين فالصراع ليس سبيلاً للدخول في دين الإسلام، وإنما سبيله هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) - البقرة: 256 - (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) - النحل: 125 - ذلك لأن الإيمان الإسلامي: تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين... وهذا لا يمكن أن يتم أو أن يكون ثمرة "للصراع الديني" بأي حال من الأحوال...

في التعددية في المِلل والشرائع الدينية سنة من سنن الله - سبحانه وتعالى - التي لا تبديل ولا تحويل لها (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) - المائدة: 48 -.

بل إن الإيمان الإسلامي بالتعددية - التي يراها الأصل والقاعدة في كل ما عدا الخالق الواحد- قد جعل المنهج الإسلامي رافضاً "لفلسفة الصراع" كلها، لأن الصراع يعني: أن يصرع طرف الطرف الآخر، فيلغيه وينفيه وينفرد بالساحة، ملغياً - بذلك - التعددية... ولذلك آثر الإسلام منهاج "التدافع" سبيلاً لتعديل المواقف بالحراك- بدلاً من "الصراع" (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) - فصلت: 34.-

بل إن هذا الطريق - اللاصراعي - هو الذي يراه الإسلام سبيلاً، لا لنفي الآخر غير الإسلامي فقط، وإنما سبيل للحفاظ إلى وجوده المتميز... فالتدافع لا يكون للحفاظ على مقدسات الإسلام وحدها، وإنما للحفاظ على كل مقدسات أصحاب المقدسات (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله ينصره، إن الله لقوي عزيز) - الحج: 40 - فهو السبيل للحفاظ على المقدسات المتعددة، للمِلل المتعددة... حتى لقد ذكرها القرآن الكريم بالترتيب التاريخي لنبواتها وأمم رسالاتها، دون تقديم -حتى مجرد تقديم - لمساجد ومقدسات الإسلام.
"فالصراع" - كالقتال - يفرضه الآخرون على الإسلام والمسلمين... دون أن يكون الخيار هو الإسلامي في حل التناقضات.

(4)

إن الإسلام لا يرى ولا يريد نفي اليهود من ديار الإسلام وإنما هو يفتح لهم كما صنع تاريخياً - ميادين العيش والتعايش، والتفاعل في دياره وبين أمته - "لهم مالنا وعليهم ما علينا"... ملة من الملل المتنوعة والمتمايزة في إطار الأمة الواحدة - وهو قد صنع ذلك قبل أربعة عشر قرناً وقبل أن تعرض الحضارات حتى مصطلح التسامح والتعايش والتعددية - عندما قرر دستور دولة المدينة - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مواده: " وأن يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم... وأن بينهم النصر... والنصح والنصيحة والبر، دون الإثم"...

فالمرفوض ليس اليهودية، وإنما المرفوض هو المشروع الصهيوني - الذي يمثل امتداداً سرطانياً للمشروع الإمبريالي الغربي - الذي ينفي المشروع الإسلامي والوجود الإسلامي في قلب وطن العروبة وعالم الإسلام "فالصراع الديني" غير وارد بأية حال من الأحوال.

بل إن إسلامية هذا الصراع هي في مصلحة الآخر الديني، نصرانياً كان هذا الآخر أو يهودياً، ذلك إن الإسلام - وحده - هو الذي يعترف بدين هذا الآخر، حتى ليجعل من الإيمان بكل النبوات والرسالات والشرائع والملل، ومن ثم مقدسات أممها، شرطاً من شروط اكتمال وكمال الإيمان الإسلامي فهو - وحده - ومن ثم أمته - وحدها - هي الأمينة والمؤتمنة بحكم الاعتقاد الديني... وليس بمجرد "التسامح" الإنساني - الذي يمنع كما يمنح - على كل مقدسات جميع الآخرين... تنافح عنها، وتدافع عن صيانة قدسيتها... وتقاتل لتحرير أراضيها... ولهذه الحقيقة من حقائق "إسلامية هذا الصراع" - الذي فرض علينا - أطلق المسلمون اسم "القدس الشريف" و"بيت المقدس"، "الحرم القدسي" على هذه المدينة، منذ أن دخلت - سنة 15هـ 636م- في إطار الدولة الإسلامية، حتى قبل بناء أي من مساجدها، وقبل إسلام أي واحد من سكانها!... بل وعاملوها، منذ اللحظة الأولى، وعلى مر تاريخها الإسلامي، معاملة "الحرم" الذي تجب صيانته عن "القتال" حتى في سبيل التحرير... فلقد حاصرها أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة الإسلامية - حتى صالح أهلها، وفتحت صلحاً - دون قتال - وذلك صيانة لحرمتها وقدسيتها، وتعظيماً لمقدساتها- ولم يكن فيها مقدسات إسلامية في ذلك التاريخ بل اختصوها - دون كل المدن المفتوحة - بأن يتسلمها ويعقد عهدها أمير المؤمنين، وليس القائد الفاتح وصنع الصنيع ذاته صلاح الدين الأيوبي، إبان تحريرها من الاحتلال الصليبي (583هـ 1187م) وكان الصليبيون قد دمروا واغتصبوا ودنسوا مقدسات المسلمين واليهود فيها... فالحرمة كانت دائماً لمطلق القدس... والقدسية كانت لكل المقدسات...

-ولذلك- ازدهرت - في ظل السلطة والسيادة الإسلامية على القدس- تعددية مقدسات الديانات فيها حتى كانت الأسر المسلمة هي المؤتمنة على نظارة أوقاف الكنائس ومفاتيحها!... ولم ينعم اليهود بالتعايش الحر في القدس إلا في ظلال الإسلام!... بينما تميزت كل عهودها غير الإسلامية بالاحتكار للطرف المتغلب عليها، دون الآخرين صنع ذلك الرومان - في حقبة ذلك وثنيتهم... وبعد أن تنصروا -... وصنع ذلك الصليبيون اللاتينيون -الفرنجة- عندما احتلوها... ويصنع ذلك الصهاينة اليوم، بالتهويد الذي ينفي وجود الآخر، وتزحف، مخاطره على كل المقدسات غير اليهودية في المدينة المقدسة... "فإسلامية القدس" لا تنفي "وطنيتها الفلسطينية" ولا طابعها العربي"... ولا تحتكر قداستها للإسلام - وإنما هي المظلة الجامعة للوطنية: والعروبة... وهي المؤتمنة على جعل هذه المدينة "قدساً شريفاً" لسائر مقدسات كل الديانات.

ففي الصراع التاريخي، الذي فرضته الحروب الصليبية على أمتنا، كان "البعد الديني" عند الفرنجة سبيلاً لاحتكار القدس "دون المسلمين واليهود... بينما كان "البعد الديني الإسلامي" - الذي حاربت أمتنا تحت راياته - هو السبيل لإشاعة قداسة القدس لكل أصحاب المقدسات...

يجسد هذه الحقيقة صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ 1137-1193م) في الرسالة التي بعث بها إلى "ريتشارد قلب الأسد" (1189-1199م) عندما يقول له: "القدس إرثنا كما هي إرثكم... من القدس عرج نبينا إلى السماء. وفي القدس تجتمع الملائكة... لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها كأمة مسلمة.

أما بالنسبة إلى الأرض، فإن احتلالكم فيها كان شيئاً عرضياً، وحدث لأن المسلمين الذين عاشوا في البلاد حينها كانوا ضعفاء. ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجراً في هذه الأرض طالما استمر الجهاد..." فالأمة الإسلامية... والجهاد الإسلامي، لا يبغيان "احتكار القدس"، وإنما يسعيان لتكون "إرثاً" مقدساً لكل أصحاب المقدسات... وبعبارة صلاح الدين الأيوبي - لريتشارد قلب الأسد - "القدس إرثنا كما هي إرثكم"!.

ولذلك، فإذا كانت الكثرة من كنائس الغرب - قد خانت القضية العادلة للقدس الشريف، وتنكرت لتاريخها مع اليهود، بل لتراثها الديني!... وأخذت تدعم - أو تصمت على - تهويد القدس... وانحدرت إلى هذا المنحدر حتى أصبحت تستجدي من اليهود قبول التوبة، والصفح والغفران!... فإن كنائس النصرانية العربية والشرقية - حتى تلك التي لها علاقات مذهبية بالكنائس الغربية - هي مع الإسلام وأمته في خندق واحد، لأن هذه الكنائس الشرقية جزءاً أصيلاً من نسيج أمتنا - أعراقاً... وثقافة... وقيماً... وحضارةً... ومصيراً - وهى تدرك - بالتجربة التاريخية والحديثة والمعاصرة - أن "إسلامية القدس" هي سبيل نجاتها من الاحتكار اليهودي. فدون "إسلامية القدس" لن يكون هناك هذا السياج الحافظ لمقدساتهم في هذه المدينة... ذلك السياج الذي بلغ ويبلغ مستوى العقيدة الدينية والإسلامية، ولا يقف عند حدود "التسامح الإنساني"، الذي يمنحه حاكم، ويمنعه آخرون!.

ثم هل حدث وأسقطت أمتنا العامل العقدي والبعد الديني في معارك التحرر والتحرير الوطني للأراضي غير المقدسة، حتى يطلب منها أن تسقط هذا العامل في صراعها لتحرير القدس الشريف، أولى القبلتين، وثالث الحرمين؟...

إن كل معاركنا للتحرر الوطني قد بدأت إسلامية، واستمرت تتغذى بالإيمان الديني والميراث الحضاري الإسلامي... ولم تنفصل في الوجدان الشعبي التضحية في سبيل تحرير الوطن عن الجهاد في سبيل الله، فكان قرابين الوطنية هم الشهداء... ولقد كان إسهام إخوتنا وأهلينا ومواطنينا النصارى، في هذه المعارك الوطنية، انطلاقاً من القيم الإيمانية الجامعة لنا جميعاً، التي أعطت الوطنية بعداً متميزاً... وانطلاقاً - أيضاً - من الطابع الإسلامي للثقافة والحضارة، الذي صهر الجميع في السمات المشتركة والقسمات الجامعة للأمة، بمللها المتعددة وأعراقها المتنوعة... وكان ذلك حال معاركنا لتحرير الأرض في العصر الحديث، كما كان في التاريخ الوسيط.

فتحت رايات الإسلام، وبزعامة نقيب الأشراف السيد عمر مكرم (1168 - 1237هـ 1755 - 1822م) هزمنا بونابرت وحملته الفرنسية، التي أسست للشراكة "الصهيونية- الامبريالية"...

وتحت رايات الإسلام هزمنا الحملة الإنجليزية التي قادها الجنرال "فريزر" على مدينة "رشيد" في مصر (1222هـ- 1807م) وتحت رايات الإسلام حارب الأمير عبدالقادر الجزائري (1222 - 1300هـ 1807 - 1883م)... وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين... وجبهة التحرير الوطني الجزائرية... ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر... وهى الرايات نفسها التي جاهدت تحت ظلالها "السنوسية" في ليبيا والحزام الإفريقي... و"المهدية" في السودان... ومن عبارة جمال الدين الأفغاني (1254 - 1314هـ 1838 - 1897م) - فيلسوف - الإسلامية، ورائد اليقظة الإسلامية الحديثة - خرجت الثورة العرابية (1298هـ 1881م)... بقيادة تلميذه الشيخ سعد زغلول (1273-1346هـ 1857 - 1927 م) - ابن الأزهر الشريف - خرجت - من الأزهر ومن الكنيسة - ثورة مصر (1337هـ 1919م)..

وتحت رايات الإسلام ثار وقاوم الأمير عبد الكريم الخطابي (1299 - 1383هـ 1882 - 1963م) وثورة الريف - في المغرب العربي... وكذلك "حزب الاستقلال" - بقيادة الفقيه المجدد علال الفاسي.

ومن عباءة مصطفى كامل (1291 - 1326هـ 1874 - 1908م) وحزبه الوطني - حزب الجامعة الإسلامية - خرج "الضباط الأحرار" وثورة يوليو سنة 1952م...

وكذلك كان الحال مع ثورة العشرين في العراق... وثورات فلسطين - من البراق سنة 1929م... إلى ثورة سنة 1936م... حتى الآن، أي منذ عز الدين القسام... إلى أمين الحسيني... إلى الجذور الإسلامية "الفتح"... إلى "حماس" و"الجهاد"...

والمنطلق الإسلامي ذاته، والطاقة العقدية الإيمانية سنجدها في سائر حركات التحرر الوطني الإسلامية من حول الوطن العربي، في إفريقيا وآسيا وسائر بلاد الإسلام التي نكبت بالاستعمار... وما بصمات وامتدادات السنوسية والمهدية على حركات التحرر الوطني الإفريقية بخفية ولا بعيدة عن الأذهان...

فكيف نطلب من الأمة التي اصطبغت معاركها لتحرير الأراضي غير المقدسة بصبغة الإسلام، وتغذت من طاقاته الجهادية، وبعده العقدي... كيف نطلب منها "علمنة " الصراع حول الأرض المقدسة دينياً، فنحرمها من قدسية الجهاد لتحرير المقدسات؟.

(5)
نريد أن نقول للقلة العلمانية، التي تريد استبعاد الإسلام من أسلحة الصراع حول القدس وفلسطين: إن "علمنة" هذا الصراع ستفتح الباب أمام الذين يرون الإسلاميين الخطر الأول والمحدق وهذا الباب سيقود أصحابه إلى الخندق الذي يقف فيه الصهاينة الذين يرون في الإسلام الخطر الأول الذي يهددهم ويهدد العالم، كما يقولون - وستصبح القضية، بالنسبة لهؤلاء العلمانيين هي زيادة نصيبهم من الفتات.. وليس تحرير المقدسات وستجعل هذه "العلمنة" أصحابها شاؤوا أم أبوا- مع العسكر الأتراك، الذين حركوا قواتهم المسلحة ضد الذين احتفلوا - مجرد احتفال بيوم القدس: .. وهم الذين يقيمون تحالفاً استراتيجياً مع الصهاينة - ضد العروبة والإسلام.

إن القدس - والأقصى.. وكنيسة القيامة - ليست مجرد "أرض".. كما أن الأزهر الشريف عندما احتله بونابرت - لم يكن مجرد "أرض". وحسابات القدس الشريف لا تتم "بمعايير الجدوى العلمانية".. لأنها لو تمت بهذه المعايير لربما كان "فندق النجوم الخمسة" أجدى من المسجد الأقصى!!..

إن اليهود، الذين حولوا دينهم إلى عنصرية وتجارة واستعمار استيطاني، قد جعلوا في "تل أبيب" أعلى نسبة للدعارة في أي مدينة من مدن العالم.. وهم يريدون للقدس ذات المصير! فبحسابات "الجدوى المادية العلمانية" تمثل الدعارة مصدر الدخل القومي، تحسب له الحسابات.. بينما لا تعني القداسة شيئاً يذكر، بهذه المعايير!.. وليس هذا هو طريق الذين يدركون معنى قدسية وإسلامية المقدسات.

وإذا كانت إسلامية الصراع لتحرير القدس، لن تحرم قوى الأمة من"الطاقات الوطنية الفلسطينية" ولا من "الإمكانات القومية العربية" ولا من تلاحم الصف الجامع للملل الدينية المتعددة.. وإنما ستضيف إليها "طاقات العقيدة الإسلامية وإمكانات الأمة الإسلامية، وعالمها الإسلامي، فإنها - علاوة على ذلك كله - ستنمي وعي الأمة - في هذا الصراع - بدلالات ومعاني ومعايير السنن والقوانين الإلهية الثابتة التي تحكم دورات هذا الصراع..

فبدون إسلامية هذا الصراع، لن نفهم السنة الإلهية التي تحدث عنها القرآن الكريم، وصدَّق عليها التاريخ، عندما قال: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) المائدة 82-. ودون هذه الإسلامية لن نعي دلالات القانون الذي تحدث عنه القرآن الكريم عندما قال عن فريق من اليهود: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) البقرة 100-.
وبدون التفسير الإسلامي لهذا الصراع سيتحول "العدو الإسرائيلي" الراهن والمتصاعد، إلى نهاية التاريخ، ومصدر لليأس والقنوط والاستسلام للأمر الواقع.. أما التفسير الإسلامي فإننا سنكون أمام بشارات بالخلاص التحريري، تدعونا إلى أن نستجمع لتحقيقها الأسباب.

بل إن حاجتنا إلى هذه "الأسلحة" اليوم هي أشد من حاجاتنا إليها قبل الآن.. ففي ظل شيوع الهزيمة النفسية لدى قطاعات من الساسة والمثقفين، ومسلسل تغيير "البرامج" و"المواثيق اعترافاً واستسلاماً" للأمر الواقع المفروض على الأمة، تحتاج الأمة إلى مرجعية "المواثيق الثوابت" التي تتغير، وإلى "سنن الله" في التدافع الأزلي الأبدي بين الحق والباطل، تلك التي لا تبديل لها ولا تحويل..

فالإسلامية حتى في الوعي بقوانين الصراع - تفيد.. وتضيف إلى الخبرات الوطنية والقومية ولا تنقص منها بأي حال من الأحوال.

بل إن هذه "الإسلامية " لن تحرم قضيتنا من إمكانات العلمانيين والماديين من مثقفينا.. فهم مدعوون إلى استثمار البعد الديني للقضية "كتراث" لأمتهم، هو الأقدر والأفعل في حشد طاقاتها لتحرير الأرض المغتصبة.. وهذا هو الذي صنعه العلمانيون اليهود مع "أساطير التلمود".. فأولى بالعلمانيين من أبنائنا أن يصنعوه مع "حقائق الإسلام!..

وأخيراً
وبعد أن رأينا البعد الديني والعقدي لهذا الصراع، حتى عند الصهيونية الملحدة وعند النظم والحكومات والجيوش الغربية العلمانية.. من حقنا أن نتساءل: هل البعد "الأيديولوجي" والعقدي للصراعات، هو "بدعة إسلامية"؟!.. ولماذا كان - إذن التأييد الماركسي واليساري للحرب الأهلية الإسبانية 1936-1939م ضد فرانكو؟!.. ولماذا كان تأييد الأممية الشيوعية لحرب التحرير التي قادها الشيوعيون في فيتنام؟!.. أما الذين يظنون أن قومية هذا الصراع تغني عن "إسلاميته" فإننا ندعوهم إلى مراجعة أدبيات قادة التيار القومي العربي.. ففيها سيجدون الإسلام حاضراً في أبعاد هذا الصراع.

إن إنكار البعد الإسلامي لهذا الصراع حول القدس وفلسطين، والدعوة إلى "علمنته"، هو لون من التزييف لوعي الأمة، لتجريدها من أمضى أسلحتها في هذا الصراع.

إن التاريخ لا يعيد نفسه.. لكنه محكوم بسنن وقوانين.. فلننظر في هذه السنن التي حكمت الصراع بين أمتنا وبين الغرب حول القدس عبر التاريخ.. وذلك أن الوعي بالسنن الحاكمة لمسارات التاريخ، هو السبيل إلى صنع هذا التاريخ..

فبالإسلام حررت الخلافة الراشدة القدس من الاستعمار البيزنطي سنة 15هـ - سنة 636م.. فاتخذت لنفسها بهذا التحرير اسم "القدس الشريف"، وشاعت قدسيتها لكل أصحاب المقدسات..

وبالإسلام حرر صلاح الدين الأيوبي القدس من الاستعمار والاحتكار الصليبي سنة 583هـ - سنة 1187م.. فأعاد لها القداسة المشاعة لكل أصحاب الديانات..

وبالإسلام، الذي يحتضن دوائر وقوى الوطنية والقومية، ويدافع عن الكنائس والصوامع والبيع دفاعه عن المساجد.. سيكون تحرير القدس، لتعود حرماً شريفاً للجميع. إن شاء الله.

د طلال النجار
د طلال النجار
المدير العام
المدير العام

عدد المساهمات : 268
ذكر العمر : 71
اسلامية الصراع حول القدس وفلسطين  112

http://www.4shared.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى